تطبيق أو طباق في أسباب افتراق المسلمين وما آل إليه . : لافتراق هذه الأمة في دينها وما تبعه من ضعفها في دنياها أربعة أسباب كلية
( 1 ) السياسة والتنازع على الملك .
( 2 ) عصبية الجنس والنسب .
( 3 ) عصبية المذاهب في الأصول والفروع .
( 4 ) القول في دين الله بالرأي .
وهناك سبب خامس قد دخل في كل منها ، وهو دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له . [ ص: 192 ] أصل لما ذكر قبله وليس له حد يقف عنده ، وآراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشئون المعيشة وأحوال الاجتماع . والدين في عقائده وعباداته وفضائله وحلاله وحرامه وضع إلهي موحى من الله تعالى . ومن فوائده المدنية جمع قلوب الأفراد والشعوب الكثيرة بأقوى الروابط وأوثق العرى الثابتة . والرأي يفرقها ; إذ قلما يتفق شخصان مستقلان فيه ، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب الكثيرة في الأزمنة المختلفة ؟ واجتماع الكثيرين بالتقليد يستلزم تفرقا شرا من التفرق في الرأي عن دليل ; لأنه تفرق جهل لا مطمع في تلافي ضرره إلا بزواله . فالقول في الدين بالرأي
تكلم علماء الكلام في تفرق المذاهب وخصوه بالتفرق في الأصول دون الفروع ، وعللوه بأن هؤلاء قد كفر بعضهم بعضا دون المختلفين في الفروع ، وفيه نظر . والتحقيق العموم كما تقدم ; فإن هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ، وأنهم تعادوا في الدين تعاديا كان من أسباب ضعفه وضعف أهله وقوة أعدائهم عليهم ، وإن كان ضررهم دون ضرر المختلفين في الأصول ، على أن بعض متعصبيهم أدخلوا خلاف الأصول في الفروع فجعل بعض الحنفية التزوج بالشافعية محل نظر ; لأنها تشك في إيمانها . وعلل القول بالجواز بقياسها على الذمية ، ومرادهم بشك الشافعية أو جميع الأشعرية وأهل الأثر في إيمانهم ; قولهم اتباعا للسلف : أنا مؤمن إن شاء الله ! ولو سلك الخلف في الدين مسلك السلف باتباع الكتاب والسنة ، والاستعانة على فهمهما بكل عالم ثقة من غير تعصب لعالم معين ، لما وقعوا في هذا الخلاف والتفرق والبغضاء والجهل بهما وهجرهما ، وما يختلف باختلاف الزمان من الأحكام القضائية والسياسية يزيله حكم الحاكم فلا يوجب تفرقا .
وقد بدأ أصحاب كتب المقالات الكلامية بحث التفرق والشيع بالحديث المرفوع الذي رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم من عدة طرق في ذلك وهو " اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " هذا لفظ افترقت أبي داود عن . ورواه من حديث أبي هريرة معاوية بلفظ : أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " وزاد في رواية " ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال : " إن من قبلكم من " أي الكلب وهو بالتحريك الداء الذي يعرض للكلاب ولمن عضه المصاب به منها . ورواه وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه ( وفي رواية بصاحبه ) لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله الترمذي من حديث عبد الله بن [ ص: 193 ] عمرو وأوله " بني إسرائيل حذو النعل بالنعل . . وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتي وسبعين ملة " قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : " من كان على ما أنا عليه وأصحابي وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة " ورواه ليأتين على أمتي كما أتى على من حديث ابن ماجه بسند ضعيف ومن حديث حذيفة بن اليمان بسند رجاله ثقات ، وعبر في كل منهما عن الفرقة الناجية بالجماعة ورواه أنس بن مالك من حديث ابن عبد البر بلفظ " عوف بن مالك الأشجعي " وقفى عليه تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله في كتاب العلم بما روي من علماء الصحابة كالخلفاء الأربعة والعبادلة وغيرهم في ذم الرأي ، وقد حققنا مسألة الرأي والقياس في تفسير النهي عن السؤال من أواخر سورة المائدة ، وقد جعل الحافظ ابن عبد البر الشاطبي الوجه الخامس مما ورد في النقل من ذم البدع ما جاء في ; إذ البدع كلها كذلك . كما وعد في الكلام على الآية التي نحن بصدد تفسيرها ونقلناه عنه آنفا ، فذكر حديث ذم الرأي غير المستند إلى كتاب ولا سنة وعدة آثار بمعناه ورجح شمول ذلك لما كان في الأصول والفروع جميعا كما نقله عن عوف بن مالك القاضي إسماعيل في تفسير الآية ، ونقل بعض ما أورده من آثار السلف في ذلك إلا إنحاء أهل الحديث على ابن عبد البر أبي حنيفة رحمه الله تعالى . ومن أحسن كلام العلماء في ذلك قول الإمام مالك : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي ; فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته ، فأنت كلما جاءك رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم اهـ . وإنما يعني بهذا دون الدنيا ومصالحها المدنية والسياسية والقضاء ; فإن من أصول مذهبه مراعاة المصالح في هذا كما بينه الرأي في الأمور الدينية من العقائد والعبادات والحلال والحرام الشاطبي في هذا الكتاب ( الاعتصام ) أحسن بيان . وقد قال هاهنا : إن الآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد . ( أقول ) : وهذا مذهبنا الذي بيناه مرارا ، وقد حقق الشاطبي في الباب التاسع من الاعتصام ( ج3 ) أن المجتهدين في المسائل الاجتهادية لا يدخلون تحت آية ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ( 11 : 118 ، 119 ) والمسائل الاجتهادية هي التي لا نص فيها ولا إجماع ، ولكن الذين يتعصبون لهم فيكونون شيعا وأحزابا يتفرقون ويتعادون في ذلك فهم من المختلفين ، [ ص: 194 ] وليس لهم عذر كعذر المجتهدين الذين قالوا وعملوا بما ظهر لهم أنه الحق ولم يكونوا يجيزون لأحد أن يقلدهم في اجتهادهم إلا إذا ظهر له صحة دليلهم فصار على بينة من الحكم . فهل يجيزون لشيعة أو حزب أن يتعصب ويعادي ويخاصم ويفرق كلمة المسلمين انتصارا لظنونهم التي كانوا يرجعون عنها إذا ظهر لهم خطؤهم فيها ؟ ! .
وقد أورد الشاطبي في الباب التاسع حديث افتراق الأمة المتقدم من رواية الترمذي وأبي داود وغيرهما ، وزاد رواية رآها في جامع ابن وهب جعل فيها الفرق 82 - إذا لم يكن النقل غلطا من النساخ - وقال : . ثم تكلم عن حقيقة الافتراق وأسبابه واستشكال كفر هذه الفرق ما عدا واحدة منها . قال كلها في النار إلا واحدة . فسألوه صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " الجماعة " أهل السنة لا يكفرون كل مبتدع بل يقولون بإيمان أكثر الطوائف التي فسروا بها الفرق ، وذكر للعلماء أقوالا في الحديث وما يؤيده من الآيات والأحاديث ولا سيما آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها ، وآية : ( وأن هذا صراطي مستقيما ) ( 153 ) التي قبلها ، ثم رجح ما كنا نراه في المسألة بادي الرأي ، وهو أن الحكم بكون هذه الفرق في النار ما عدا الجماعة الملتزمة لما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لا يقتضي أنها كلها خالدة خلود الكفار بل هي مطلقة ، فيجوز أن يكون منها من يعذب على الكفر والعمل لأنه كفر ببدعته ، ومنها من يعذب على البدعة والمعصية فقط ، ولا يخلد في العذاب خلود الكفار المشركين أو الجاحدين لبعض ما علم من الدين بالضرورة ثم عقد في هذا الباب مسائل في أبحاث مهمة كبحث عد هذه الفرق من الأمة وعدمه ، وما قيل في عددها وتعيينها ، وغير ذلك مما يحسن بطالب التحقيق في هذا الموضوع الاطلاع عليه .