: ضعف المذاهب والدين ودسائس الأجانب في المسلمين
ضعفت في هذا العصر عصبية المذاهب نفسها ولا سيما في الفروع ، من حيث إنها لم تعد من وسائل سعة الرزق ولا عرض الجاه بالمناصب والجلوس على منصات الحكم - وإنما كانت العصبية لذلك - ويضعف الدين نفسه فإن الجهل بحقيقته صار عاما ، وصنف العلماء أعماهم [ ص: 200 ] التقليد عن النظر في مصالح الأمة والسير بالقضاء والإدارة والسياسة على ما تجدد لها من هذه المصالح ، وما استهدفت له من الغوائل والمفاسد ، حتى اقتنع حكامها الجاهلون في أكثر البلاد بأن شريعتها لم تعد كافية للاعتماد عليها في ذلك ، فصاروا يقلدون الإفرنج فيما اشترعوا لأنفسهم من القوانين التي يرونها موافقة لعاداتهم وآدابهم وعقائدهم وتقاليدهم وإن لم تكن موافقة للمسلمين في شيء من ذلك ، ولم يعقلوا ما في هذا التقليد من المفاسد السياسية والاجتماعية المضعفة للأمة في دينها ودنياها ، بل حسبوا بجهلهم وبإغواء الطامعين فيهم لهم أنهم بهذا يتفصون من عقال الشرع وسيطرة رجاله الجامدين ، فيكون أمر حكومتهم بأيديهم يتصرفون فيها كما يشاءون ، ويكونون كالدول الأوروبية في عزتها وثروتها ، فكانت عاقبة هذا الإغواء أن سلبهم أولئك المغوون ملكهم وجعلوهم أسلحة وآلات بأيديهم ، يذلون بهم أممهم وشعوبهم ، ويضربون بعضها ببعض ، فلم يستطيعوا أن يقضوا على استقلال مملكة إسلامية إلا بمساعدة فريق من أهلها . أو من الشعوب الإسلامية المتصلة بها ، وفاقا لما وعد الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث في صحيح ثوبان مسلم وكتب السنن " " ومن اطلع على تاريخ استعمار الأجانب للممالك الإسلامية من أوله إلى هذه الأيام يرى مصداق هذا في غرب تلك البلاد وشرقها . وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ( سلطتهم وملكهم ) ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا
وقد اجتهد أولئك الطامعون المغوون بإفساد أفكار الشعوب الإسلامية وقلوبها ، كما اجتهدوا في دس الدسائس لإفساد سلاطينها وأمرائها ، لئلا ترجع إلى هداية القرآن فتجتمع كلمتها وتصلح حكومتها ، فتكون أمما عزيزة يتعذر استعبادها . فبثوا فيها دعاة الدين لتشكيكها في القرآن والنبوة واستمالتها إلى دينهم الذي قل من بقي له ثقة به من ساستهم وعلمائهم ، ومنهم من يشككها في أصل الدين ، أي وجود الإله وبعثة الرسل . كما بثوا فيها دعاة السياسة يرغبونها في قطع الرابطة الدينية التي تربط بعضها ببعض واستبدال الرابطة الجنسية أو الوطنية بها . فكان عاقبة ذلك وقوع العداوة والبغضاء بين الترك والفرس ، ثم بين الترك وبين الألبان والعرب . بل صار أهل الجنس الواحد الذي تضمه رابطة الدين ورابطة اللغة ورابطة العادات وغيرها يتعادى باسم الوطنية ، فيعد المصري أخاه السوري والحجازي دخيلا في بلاده .
فهذا النوع من التفرق إذا لم يكن من التفريق للدين في إحدى القراءتين في الآية ، فهو من المفارقة له في القراءة الأخرى وهي شر الأمرين ، فإنه ترك لهدايته في وحدة الأمة وأخوة الدين وإقامة الشريعة وحفظها . غير هؤلاء المسلمون بفساد أمرائهم وزعمائهم ما بأنفسهم فغير الله ما بهم وسلبهم عزهم وسلطانهم ، وما ظلمهم بذلك ولكن ظلموا أنفسهم بعد أن [ ص: 201 ] أنذرهم وحذرهم فكانوا من الأخسرين أعمالا : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ( 18 : 104 )
بين الله تعالى لهم في كتابه سننه في الأمم - ومنها هلاك المتفرقة - وأنها لا تتبدل ولا تتحول ، ولكنهم هجروا الكتاب حتى إن رجال الدين منهم تركوا إرشاد الحكام والأمة به ، بل استغنوا عن هدايته بتقليد شيوخهم . وأيدوا الحكام وأقروهم على ضلالهم لأجل ما بأيديهم من فضلات الرزق ومظاهر الجاه .