( يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) يقال في هذا النداء ما قيل فيما قبله . وتكرار النداء في مقام الوعظ والتذكير من أقوى أساليب التنبيه والتأثير ، يعرف ذلك الإنسان من نفسه ، ويشعر به في قلبه . ونظيره في التنزيل قصة الجن من سورة الأحقاف ، إذ جاء فيها الوعظ والإنذار بتكرار النداء : يا قومنا . . . . يا قومنا . . . . ووعظ مؤمن آل فرعون في سورة غافر : يا قوم . . . . . يا قوم . . . . . وقد فاتنا أن نذكر في تفسير النداء في الآية الأولى أن الذي يفهم من أساليب العربية في نسبة الإنسان إلى أحد أجداده أنه خاص بالجد الذي صار رئيس القبيلة أو العشيرة الكبيرة التي انحصر نسبها فيه كقريش ، ، وعبد القادر الجيلاني وعثمان مؤسس السلطنة العثمانية ، ومحمد علي الكبير مؤسس دولة مصر الجديدة . أو الذي له صفة ممتازة يقتضي المقام تذكير من ينسب إليه بها لمشاركته له فيها أو للتعريض [ ص: 322 ] بتجرده منها مثلا . كأن تقول لبعض أحفاد الخديوي توفيق يا ابن إسماعيل ، أو هذا ابن إسماعيل في مقام السخاء وسعة العطاء إثباتا أو نفيا . ولو قلت له في هذا المقام يا ابن توفيق كان خطأ ؛ فإن توفيقا لم يشتهر بصفة السخاء وكثرة الهبات . وتسمية الناس أبناء آدم من النوع الأول . وفي كل منها تدل القرينة على أن المنسوب إليه أحد الأجداد وليس هو الأب . فمن استدل بالنداء في هذه الآيات على أن أولاد الأولاد يدخلون في الوقف على الأولاد بدلالة اللغة فقد أخطأ .
، وأصله من قولهم فتن الصائغ الذهب والفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار . وحجر الصائغ الذي يختبرهما به يسمى الفتانة ، والفتنة تكون بالمحن والشدائد غالبا ، وقد تكون بالاستمالة بالشهوات فإن الصبر عن الشهوات قد يكون أعسر من الصبر على الشدائد . والفتنة : الابتلاء والاختبار
ومعنى ( لا يفتننكم الشيطان ) : لا تغفلوا عن أنفسكم ووسوسته لكم فتمكنوه بذلك من خداعكم بها وإيقاعكم في المعاصي ، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزين لهما معصية ربهما . ففتنهما حتى عصياه بالأكل من الشجرة التي نهاهما عنها ، فكان ذلك سببا لخروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها ، ودخلا في طور آخر من الحياة يكابدون فيها شقاء المعيشة وهمومها وأن الفتنة التي تحرم المفتون من دخول الجنة أسهل من الفتنة التي تخرج من الجنة ، ولا سيما إذا تفاوت نعيم الجنتين ومدة اللبث فيهما .
( ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) أي أخرجهما من الجنة حال كونه نازعا عنهما لباسهما - أي سببا لنزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوآتهما أو لتكون عاقبة ذلك إراءتهما سوآتهما دائما . ويفهم من هذا ما هو المعقول من أنهما كانا يعيشان بعد الخروج منها عريانين إذ ليس في الأرض ثياب تصنع وما ثم إلا ورق الشجر حيث يوجد .
ولا نعلم أكان يوجد في الأرض شجر ذو ورق عريض في غير الجنة التي أخرجا منها ؟ وجميع الباحثين في طبائع الاجتماع وعاديات البشر وآثارهم يجزمون بأنهم كانوا قبل الاهتداء إلى الصناعات يعيشون عراة ، وأن أول ما اكتسوا به ورق الشجر وجلود الحيوانات التي يصطادونها ، ولا يزال في المتوحشين منهم من يعيش كذلك ، وهذا الذي قلناه يدل عليه جعلهم ( ينزع ) حالا من فاعل يخرج ، ومثله جعله حالا ( من أبويكم ) الذي هو مفعول يخرج ، ولكن جميع ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين يجعل ما هنا عين ما تقدم من ظهور سوآتهما لهما عقب الأكل من الشجرة قبل الإخراج من الجنة ، الذي كان بعد سترهما سوآتهما بما خصفا عليهما من ورقها ، والمتبادر أن هذا غير ذلك وهنالك لم يقل إنه كان عليهما لباس فنزع ، وإنما كان شيء موارى فظهر ، فصار كل منهما يرى من نفسه ومن الآخر ما لم يكن يرى . [ ص: 323 ] وقد جعل بعضهم هذا اللباس حسيا ، وجعله بعضهم معنويا ، فروي عن ابن عباس وعكرمة أن لباسهما كان الظفر ، وأنه نزع عنهما بسبب الأكل من الشجرة وتركت الأظفار في رءوس الأصابع تذكرة وزينة ، وعن أنه كان عليهما نور يمنع رؤية السوءتين وهو المراد بلباسهما ، وقد بينا هنالك أن هذا وذاك من الإسرائيليات التي لا دليل عليها . وعن وهب بن منبه مجاهد في قوله : ( ينزع عنهما لباسهما ) قال : التقوى . وقد نقل هذه الأقوال ولم يعتد بشيء منها ، بل جوز أن يكون ذلك اللباس غيرها ، وعلله بأنه ليس في المسألة خبر تثبت به الحجة . واختار التفويض وترك تعيين ذلك اللباس . ابن جرير
وهذا ما اعتمدنا عليه هنالك في رد الروايات ؛ فإن التعيين في مثلها لا يقبل إلا بخبر صحيح من المعصوم . وأما ما رجحناه من غير جزم ، فأخذناه من سنة الله تعالى في التكوين وبدء الخلق .
وقد استدل بعض الناس بهذه القصة على كراهة حتى في خلوة المباعلة الزوجية . وإنما القصة مبينة لحال الفطرة وليس فيها حكم التكليف الشرعي في هذه المسألة . هل هو الكراهة أو الإباحة ؟ ومن الناس من يرى أن القول بكراهة ما ذكر حرج شديد وتحكم في الفطرة ، وحجر عليها في صفة التمتع الحلال المطلوب شرعا بما لا تظهر له حكمة ، والمختار : أن هذا من المباح ولا حجر فيه ولا حرج . وما ورد في هذا الباب من السنة فآداب إرشادية للخواص يستفيد كل منها بقدر سلامة فطرته ، ودرجة أدبه وفضيلته رؤية كل من الزوجين سوءة الآخر كحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم ما رأى منها ولا رأت منه . ولكن لا نسلم أن جعل رؤية السوءة ولا سيما باطنها مكروها تنزيها فلا يحسن التمادي فيها - مما لا تظهر له حكمة تليق بدين الفطرة ؛ فإن إطلاق العنان في المباحات كلها قد يفضي إلى الإسراف الضار الذي يقصد به صاحبه زيادة اللذة فيصدق قول الأمثال : من طلب الزيادة وقع في النقصان . ورب أكلة هاضت الآكل وحرمته مآكل ، وما جاوز حده جاور ضده . ولكن هذه حكمة عالية لا يفقهها إلا حكيم خبير يعلم أن من أعطى نفسه منتهى ما يقدر عليه من اللذة - وإن مباحة - فلم يقف عند حد أدب شرعي ولا فطري ولا طبي آل أمره في الإسراف إلى إضعاف هذه اللذة ، حتى يحتاج في إثارتها إلى المعالجة والأدوية ثم لا تكون إلا ناقصة ويكرر إضعافها بعد إثارتها بسنة رد الفعل حتى تكون مرضا . ويكون صاحبها حرضا أو يكون من الهالكين ، ولهذا ترى أكثر المترفين سيئي الهضم شديدي الإقهاء والطسي يكثرون حتى في سن الشباب من الأدوية والمحرضات على الطعام ، والمعاجين والحبوب السامة التي تقوي الباه فتنتابهم الأمراض والأسقام ، ويسرع إليهم الهرم إذا لم يسرع الحمام .