( وكلوا واشربوا ) وهذا الأمر المقيد بما عطف عليه من النهي إرشاد عال أيضا فيه صلاح للبشر في دينهم ومعاشهم ومعادهم ، لا يستغنون عنه في وقت من الأوقات ولا عصر من [ ص: 342 ] الأعصار ، وكل ما بلغوه من سعة العلم في الطب وغيره لم يغنهم عنه ، بل هو يغني المهتدي به في أمره ونهيه عن معظم وصايا الطب لحفظ الصحة - والمعنى : خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات ، وكلوا من الطيبات واشربوا الماء وغيره من الأشربة النافعة المستلذات ( ولا تسرفوا ) فيها ولا تعتدوا بل الزموا الاعتدال ( إنه لا يحب المسرفين ) أي إن ربكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم لمنفعتكم ، لا يحب المسرفين في أمرهم ، بل يعاقبهم على الإسراف بقدر ما ينشأ عنه من المفاسد والمضار ، فالنهي راجع إلى الثلاثة كما يؤخذ من أكثر الروايات ، بل حذف المعمول يدل على العموم ، أي لا تسرفوا في هذه الأشياء ولا في غيرها ، ويؤيده تعليل النهي بأنه تعالى لا يحب جنس المسرفين - أي لأنهم يخالفون سننه في فطرتهم ، وشريعته في هدايتهم ، بجنايتهم على أنفسهم في ضرر أبدانهم ، وضياع أموالهم ، وغير ذلك من مضار الإسراف الشخصية والمنزلية والقومية . أخرج ، عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن ماجه وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمرو بن شعيب وفي معناه عن " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " : كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة . والمخيلة ( بفتح الميم بوزن سفينة ) الخيلاء والإعجاب والكبر ، وعن ابن عباس عكرمة في قوله " ولا تسرفوا " قال : في الثياب والطعام والشراب . وعن قال : من السرف أن يكتسي الإنسان ويأكل ويشرب ما ليس عنده وفي رواية عن وهب بن منبه في قوله : ( ابن عباس إنه لا يحب المسرفين ) قال في الطعام والشراب وفي أخرى قال : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة . . ولم يذكر اللباس والمخيلة تظهر فيه ولا تظهر في نفس الأكل والشرب ، وإنما قد تظهر في أوانيها كما سيأتي .
تجاوز الحد في كل شيء بحسبه ، والحدود منها طبيعي كالجوع والشبع والظمأ والري ، فلو لم يأكل الإنسان إلا إذا أحس بالجوع ومتى شعر بالشبع كف وإن كان يستلذ الاستزادة ، ولو لم يشرب إلا إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ريا فلم يزد عليه لاستلذاذ برد الشراب أو حلاوته ، لم يكن مسرفا في أكله وشرابه ، وكان طعامه وشرابه نافعا له - ومنها اقتصادي وهو أن تكون نفقة الثلاثة على نسبة معينة من دخل الإنسان لا تستغرق كسبه ، فمن نفينا عنه الإسراف الطبيعي في أكله وشربه ، قد يكون مسرفا في ماله إذا كان نوع طعامه وشرابه ولباسه مما لا يفي دخله بمثله - ومنها عقلي أو علمي ، ومنها عرفي وشرعي ، ومن والأصل في الإسراف أنه حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، ومن الشراب حدود الشرع في الطعام والشراب واللباس ، كما حرم كل ضار منهما كالسموم ، ومن الخمر وهي كل مسكر وكذا الغالب - على [ ص: 343 ] الرجال دون النساء - فهذه أشياء محرمة بأعيانها ، فلا تباح إلا لضرورة تقدر بقدرها . وحرم مما يلابسها الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة وهذا وما قبله ثابت في الأحاديث الصحيحة ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم عده من السرف الذي يدخل في عموم النهي عن الإسراف في الثلاثة ، اللباس الحرير المصمت أي الخالص ونهى أيضا عن لباس الشهرة وعن تشبه المسلمين بغيرهم .
واعتبر علماء الشرع عرف الناس فيما يجب من نفقة الأقارب التي تختلف باختلاف الضيق والسعة ، أخذا من قوله تعالى : ( لينفق ذو سعة من سعته ) ( 65 : 7 ) الآية ، فيجب ، ولكن درجات الغنى والفقر متفاوتة لا يمكن ضبطها وتحديدها ، والمعتبر في كل طبقة من الناس عرف المعتدلين منهم الذي يدخل في طاقتهم - ومن تجاوز طاقته مباراة لمن هم في الثروة مثله من المسرفين أو لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا ، وكم خربت هذه المباراة والمنافسة من بيوت كانت عامرة ، ولا سيما إذا اتبعت فيها أهواء النساء في التنافس في الحلي والحلل ، والمهور وتجهيز العرائس واحتفالات الأعراس والمآتم وما يتبعهما من الولائم والوضائم وإن من النساء من ترى من العار أن تلبس الغلالة أو الحلة في زيارتها لأمثالها مرتين بل لا بد لكل زيارة من حلة جديدة . وهذا سرف كبير وضرره على الأمة أكبر من ضرره على الأفراد ، ولا سيما في مثل هذه البلاد ، التي تأتي بكل أنواع الزينة من البلاد الأجنبية ، فتذهب ثروتها إلى من يستعين بها على استذلالهم وسلب استقلالهم . على الزوج الغني لزوجته الغنية ما لا يجب على الفقير من غذاء ولباس
ولا يعارض ما تقدم هذا ما ورد من الآثار وسيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم من السلف في التقشف : فإن هذا الهدي القرآني هو أصل الشرع ، وكل ما خالفه فله سبب يعرفه الواقف على جملة سيرتهم وما كانوا عليه من الفقر والضيق في أول الإسلام وما خافوا على الأمة من الفساد بالترف والسرف عند خروجها من ذلك الضيق إلى تلك السعة التي لا حد لها بالاستيلاء على ملك كسرى وقيصر وغيرهما .
على أن كضده ، والاعتدال والقصد هو الذي خاطب به الشرع الناس كلهم ، وهو يختلف باختلاف اليسر والعسر والزمان والمكان . وما ورد من حديث الميل إلى التقشف والتقتير والغلو في ذلك تدينا معهود من طباع البشر عائشة عند ابن مردويه والبيهقي من أن الأكل مرتين في اليوم من الإسراف ضعيف ومعارض بالصحاح وحديث أنس عن ابن ماجه ضعيف أيضا ولكن معناه صحيح وحكمة من جهة أخرى وذلك أن من أتبع نفسه هواها ، ولم يكبح جموحها بقوة الإرادة عن بعض شهواتها ، فإنها [ ص: 344 ] تقوده إلى الإسراف وإلى شرور أخرى ؛ ولهذا شرع الله الصيام علينا وعلى من قبلنا . وقد مال بعض الصحابة إلى الغلو وشرعوا فيه بترك أكل اللحم وغشيان النساء حتى استأذن بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في الخصاء فأدبهم الله ورسوله بما ورد من الآيات والأحاديث في ذلك وقد فصلنا القول فيه تفصيلا عند تفسير قوله تعالى من سورة المائدة : ( " إن من السرف أن تأكل ما اشتهيت " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) ( 5 : 87 ) إلخ الآيتين وبينا فيه أن ما عنى بعض الصوفية بنقله من أخبار الزهد في الطعام في كتاب كسر الشهوتين فأكثره لا أصل له ، ومنه الموضوع والضعيف وأقله الصحيح ، وأن جملة كالغزالي أنه كان يأكل ما وجد من خشن ومستلذ ، ليكون قدوة للمعسرين وهم أكثر أصحابه وللموسرين وهم الأقلون منهم في عهده ، وقد أيسروا من بعده على أنه ورد أن أحب الطعام إليه اللحم ، ولكنه لم يكن يهتم بالطعام ، وإنما كان يهتم بأمر الماء والشراب ، فلا يشرب إلا النظيف العذب ، ويحب البارد الحلو ، حتى كان يستعذب له الماء من مسافة يوم أو يومين ، وأما اللباس فكان في عامة أحواله يلبس ما كان يلبس قومه . ولبس من خشن اللباس ومن أجود أنواعه ليكون قدوة للغني والفقير . سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام
وجملة القول : أن الطعام والشراب ضرورة بشرية حيوانية ، ولكن ضل فيها فريقان من البشر في كل أمة من الأمم - فريق البخلاء والغلاة في الدين ، الذين يتركون الأكل والشرب من الطيبات المستلذة النافعة بخلا وشحا أو يحرمونها على أنفسهم تحريما دائما أو في أيام أو أشهر مخصوصة تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وإضعاف الجسم - وفريق المترفين المسرفين في اللذات البدنية ، الذين جعلوا جل همهم من حياتهم التمتع باللذات ، فهم يأكلون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام بل هم أضل منها في تمتعهم ؛ لأنها تقف عند حاجة فطرتها دونهم فلا تعدوا فيها داعية غريزتها التي تحفظ بها حياتها الفردية والنوعية ، وأما المترفون من الناس ، فإنهم يسرفون في ذلك فيأكلون قبل تحقق الجوع ويشربون على غير ظمأ ، ويتجاوزون قدر الحاجة في الأكل والشرب كما يتجاوزونه في غيرهما ويستعينون على ذلك بالتوابل والمحرضات للشهوة فيصابون من جراء ذلك بتمدد المعدة ، وسوء الهضم وفساد الأمعاء من التخمة ، وكثرة الفضلات في الجسم التي تحدث تصلب الشرايين المعجل بالهرم ، وغير ذلك من الأمراض ، كما هو شأنهم في شهوة داعية النسل التي بينا ضرر الانهماك والإسراف فيها قريبا من الكلام على مسألة ستر السوءتين حتى فيما بين الزوجين ، وفي مواضع أخرى ؛ لأجل هذا قيد الأمر في الأكل والشرب من الطيبات بالنهي عن الإسراف كما قيده في زينة اللباس . [ ص: 345 ] هذا وإن الاقتصاد في المعيشة قد وضعت له قواعد وأصول ، فرعت منها مسائل وفروع فيحسن الاستنارة بها وبعلم تدبير المنزل على اجتناب ما حظره الشرع من الإسراف والتبذير والبخل والتقتير : واتباع ما حث عليه ورغب فيه من القصد والاعتدال في النفقات والصدقات وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث في ذلك في تفسير قوله تعالى أول سورة النساء : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) ( 4 : 5 ) .