(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=28978إن رحمة الله قريب من المحسنين ) أي إن رحمته تعالى الفعلية التي يعبر عنها بالإحسان قريبة من المحسنين في أعمالهم المتقنين لها لأن الجزاء من جنس العمل . فمن أحسن في العبادة نال حسن الثواب ، ومن أحسن في أمور الدنيا نال حسن النجاح ، ومن أحسن في الدعاء استجيب له ، أو أعطي خيرا مما طلبه ، والجملة تعليل للأمر بالدعاء قبلها ، مبينة لفائدة الدعاء العامة كما قررنا . فهي أعم من قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60ادعوني أستجب لكم ) ( 40 : 60 ) .
[ ص: 411 ] والإحسان مطلوب في كل شيء بهدي دين الفطرة ، الداعي لحسنتي الدنيا والآخرة ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468_19799وجزاء الإحسان في كل شيء بحسبه . قال عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=60هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ( 55 : 60 ) كما أن الإساءة محرمة في كل شيء وجزاءها من جنسها . قال عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ( 53 : 31 ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919097إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته " رواه
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=75شداد بن أوس رضي الله عنه
nindex.php?page=treesubj&link=19799فالإحسان واجب في دين الإسلام حتى في قتال الأعداء ؛ لأنه في حكمه من الضرورات التي تقدر بقدرها ، ويتقى ما يمكن الاستغناء عنه من شرها ، ومنه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) ( 47 : 4 ) أي فإذا لقيتم أعداءكم الكفار في المعركة فقاتلوهم بضرب الرقاب لأنه أسرع إلى القتل وأبعد عن التعذيب بمثل ضرب الرأس مثلا - وناهيك بتهشيم الرءوس وتقطيع الأعضاء في عهد التنزيل الذي لم يكن فيه أطباء جراحة يخففون آلامها - حتى إذا ظهر لكم الغلب عليهم بالإثخان فيهم فاتركوا القتل واعمدوا إلى الأسر ، ثم إما أن تمنوا على الأسرى بالعتق منا ، وإما أن تفدوا بهم من أسر منكم فداء .
وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=19824_19826الإحسان في الحيوان والرفق به ، ومنه ذبح البهائم للأكل يجب أن يحسن فيها بقدر الطاقة حتى لا يتعذب الحيوان ، ولهذا حرم الله الموقوذة وهي التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت .
ومن العبرة في الآية أن الماديين من البشر يعدون الرحمة ضعفا في النفس تجب مقاومته بالتعليم والتربية ، أي بإفساد الفطرة الإلهية التي أودع فيها الرب الرحيم جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه ويتعاطفون ، وقاعدة التربية المادية أن أمور الحياة كلها تجارة يقصد بها الربح العاجل ، فإذا رأيت امرأ أو طفلا أو عشيرة أو أمة عرضة للآلام والهلاك ، ولم يكن لك ربح وفائدة خاصة من دفع الهلاك عنهم فلا تكلف نفسك ذلك ، وإذا كان لك أو لقومك ربح من ظلم فرد من الأفراد أو شعب من الشعوب وإشقائه بالاستعباد ، وإفساد الأخلاق وإرهاق الأجساد ، فافعل ذلك وتوسل إليه بكل الوسائل التي يدلك عليها العلم وتمكنك منها القوة ، بل هم يربون أولادهم على ألا ينالوا منهم شيئا إلا بعمل
[ ص: 412 ] يعملونه لهم ، ليطبعوا في أنفسهم ملكة طلب الربح من كل عمل ، وهذا حسن إذا لم ينزعوا منها عواطف الرحمة وحب الإحسان بمراغمة الفطرة وإفسادها .
على هذه القاعدة قام بناء الاستعمار الإفرنجي في العالم ، فكل دولة أوربية تستولي على شعب من الشعوب تعني أشد العناية بإفساد أخلاقه وإذلال نفسه واستنزاف ثروته ، وكل ما تعمله في بلاده من عمل عمراني كتعبيد الطرق وإصلاح ري الأرض فلأجل توفير ربحها منها ، وتمكينها من سوق جيوشها التي تستعبد بها أهلها ، وقد قرأنا في هذا العام مقالات لسائحة أميركانية طافت كثيرا من المستعمرات الأوربية في الشرق الأقصى ، وصفت إذلال المستعمرين فيها للأهالي بنحو جرهم لعرباتهم ، والدوس على رقابهم وظهورهم ، وإفساد أنفسهم وأجسادهم بإباحة شرب سموم الأفيون والكحول ( الخمور الشديدة السم ) ، وسلب أموالهم بوسائل نظامية - فذكرت ما تقشعر منه جلود المؤمنين ، وتشمئز نفوس الرحماء المهذبين ، ومن ذا الذي يستغرب منهم هذا بعد أن علم ما أقدموا عليه في حرب بعضهم لبعض في بلادهم (
أوربة ) من القسوة والتخريب والتدمير ؟ فهم يروون أن قتلى هذه الحرب بلغت عشرة ملايين شاب ، والمشوهين المعطلين من الجراح زهاء ثلاثين مليونا ، وأن نفقات التدمير قدرت بخمسمائة ألف مليون جنيه إنكليزي ، وهي لو أنفقت على إصلاح كل ممالك المعمورة لكفت ، ولا تزال الدول الظافرة المسلحة ترهق الذين لا سلاح بأيديهم وتحاول الإجهاز عليهم . فأين هذا من قتال الإسلام وفتوحه المبني على قاعدة كون الحرب ضرورة تقدر بقدرها ، ويفترض الإحسان والرحمة بقدر الإمكان فيها ؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن مر بامرأتين من اليهود على قتلاهما " أنزعت الرحمة من قلبك حتى مررت بالمرأتين على قتلاهما ؟ " وقد شهد لنا المؤرخون المنصفون من الإفرنج بذلك حتى قال بعضهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب - يعني المسلمين منهم . اللهم ارحمنا واجعلنا من الراحمين ، وأجرنا من شر المفسدين القساة الظالمين .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن كلمة ( قريب ) وقعت خبرا للرحمة ، ومن قواعد النحو أن يكون الخبر مطابقا للمبتدإ في التذكير والتأنيث بأن يقال هنا " قريبة " وقد ذكروا في تعليل هذا التذكير هنا وتوجيهه بضعة عشر وجها ما بين لفظي ومعنوي ، بعضها قريب من ذوق اللغة وبعضها تكلف ظاهر . ( منها ) أن التذكير والتأنيث هنا لفظي لا حقيقي فلا تجب فيه المطابقة ، وفيه أن الأصل فيه المطابقة فلا تترك في الكلام الفصيح إلا لنكتة . ( ومنها ) . ولك أن تجعله نكتة جامعة بين التوجيه اللفظي والمعنوي - أن معنى الرحمة هنا مذكر . قيل : هو المطر . وهو ضعيف . والصواب أن معناها الإحسان العام لأنها في هذا المقام صفة فعل لا صفة ذات ، إذ لا معنى لقرب الصفات الإلهية الذاتية من المخلوقين ،
[ ص: 413 ] فيكون المعنى : أن إحسان الله قريب من المحسنين ، ويؤكده ما فيه من التناسب بين الجزاء والعمل كما قلنا في تفسير الجملة ، ويؤيده حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=918568 " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " رواه
أحمد وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي والحاكم من حديث
عبد الله بن عمر ، ووقع لنا مسلسلا عن شيخنا
القاوقجي على أنه قد ورد في التنزيل (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17لعل الساعة قريب ) ( 42 : 17 ) و (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=63لعل الساعة تكون قريبا ) ( 33 : 63 ) وقد يعلله فيهما برعاية الفاصلة من يقول بها وهم الجمهور . ( ومنها ) أن ( قريب ) في هذه الآيات بمعنى اسم المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث . وقد يقال : إن المراد أنه تعالى قريب برحمته من المحسنين ، كما أنه قريب بعلمه وإجابته من الداعين . وكثيرا ما يعطى المضاف صفة المضاف إليه وضميره ، ومهما يقل فالاستعمال قد ورد في أفصح الكلام العربي وأعلاه ، فمن أعجبه شيء مما عللوه به لطرد قواعدهم قال به ، ومن لم يعجبه منها شيء فليقل إن هذا من السماعي ، وما هو ببدع في هذه اللغة ولا في غيرها .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=28978إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى الْفِعْلِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْمُتْقِنِينَ لَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . فَمَنْ أَحْسَنَ فِي الْعِبَادَةِ نَالَ حُسْنَ الثَّوَابِ ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا نَالَ حُسْنَ النَّجَاحِ ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ ، أَوْ أُعْطِيَ خَيْرًا مِمَّا طَلَبَهُ ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ قَبْلَهَا ، مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ الْعَامَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا . فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ( 40 : 60 ) .
[ ص: 411 ] وَالْإِحْسَانُ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِهَدْيِ دِينِ الْفِطْرَةِ ، الدَّاعِي لِحَسَنَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468_19799وَجَزَاءُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=60هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) ( 55 : 60 ) كَمَا أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَجَزَاءَهَا مِنْ جِنْسِهَا . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) ( 53 : 31 ) وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919097إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " رَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=75شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=19799فَالْإِحْسَانُ وَاجِبٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِهِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَيُتَّقَى مَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مِنْ شَرِّهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابَ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشَدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فَدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) ( 47 : 4 ) أَيْ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَعْدَاءَكُمُ الْكُفَّارَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَقَاتِلُوهُمْ بِضَرْبِ الرِّقَابِ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الْقَتْلِ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّعْذِيبِ بِمِثْلِ ضَرْبِ الرَّأْسِ مَثَلًا - وَنَاهِيكَ بِتَهْشِيمِ الرُّءُوسِ وَتَقْطِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَطِبَّاءُ جِرَاحَةٍ يُخَفِّفُونَ آلَامَهَا - حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَكُمُ الْغَلَبُ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْخَانِ فِيهِمْ فَاتْرُكُوا الْقَتْلَ وَاعْمَدُوا إِلَى الْأَسْرِ ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَى الْأَسْرَى بِالْعِتْقِ مَنًّا ، وَإِمَّا أَنْ تَفْدُوا بِهِمْ مَنْ أُسِرَ مِنْكُمْ فِدَاءً .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=19824_19826الْإِحْسَانُ فِي الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِهِ ، وَمِنْهُ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ لِلْأَكْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْسُنَ فِيهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّبَ الْحَيَوَانُ ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَوْقُوذَةَ وَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَنْحَلَّ قُوَاهَا وَتَمُوتَ .
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْبَشَرِ يَعُدُّونَ الرَّحْمَةَ ضَعْفًا فِي النَّفْسِ تَجِبُ مُقَاوَمَتُهُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ ، أَيْ بِإِفْسَادِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَوْدَعَ فِيهَا الرَّبُّ الرَّحِيمُ جُزْءًا مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يَتَرَاحَمُ بِهَا خَلْقُهُ وَيَتَعَاطَفُونَ ، وَقَاعِدَةُ التَّرْبِيَةِ الْمَادِّيَّةِ أَنَّ أُمُورَ الْحَيَاةِ كُلَّهَا تِجَارَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ الْعَاجِلُ ، فَإِذَا رَأَيْتَ امْرَأً أَوْ طِفْلًا أَوْ عَشِيرَةً أَوْ أَمَةً عُرْضَةً لِلْآلَامِ وَالْهَلَاكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُمْ فَلَا تُكَلِّفْ نَفْسَكَ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ لَكَ أَوْ لِقَوْمِكَ رِبْحٌ مِنْ ظُلْمِ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوْ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ وَإِشْقَائِهِ بِالِاسْتِعْبَادِ ، وَإِفْسَادِ الْأَخْلَاقِ وَإِرْهَاقِ الْأَجْسَادِ ، فَافْعَلْ ذَلِكَ وَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَدُلُّكَ عَلَيْهَا الْعِلْمُ وَتُمَكِّنُكَ مِنْهَا الْقُوَّةُ ، بَلْ هُمْ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى أَلَّا يَنَالُوا مِنْهُمْ شَيْئًا إِلَّا بِعَمَلٍ
[ ص: 412 ] يَعْمَلُونَهُ لَهُمْ ، لِيَطْبَعُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَلَكَةَ طَلَبِ الرِّبْحِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ ، وَهَذَا حَسَنٌ إِذَا لَمْ يَنْزِعُوا مِنْهَا عَوَاطِفَ الرَّحْمَةِ وَحُبَّ الْإِحْسَانِ بِمُرَاغَمَةِ الْفِطْرَةِ وَإِفْسَادِهَا .
عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَامَ بِنَاءُ الِاسْتِعْمَارِ الْإِفْرِنْجِيِّ فِي الْعَالَمِ ، فَكُلُّ دَوْلَةٍ أُورُبِّيَّةٍ تَسْتَوْلِي عَلَى شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ تَعْنِي أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِإِفْسَادِ أَخْلَاقِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهِ وَاسْتِنْزَافِ ثَرْوَتِهِ ، وَكُلُّ مَا تَعْمَلُهُ فِي بِلَادِهِ مِنْ عَمَلٍ عُمْرَانِيٍّ كَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ وَإِصْلَاحِ رَيِّ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ تَوْفِيرِ رِبْحِهَا مِنْهَا ، وَتَمْكِينِهَا مِنْ سَوْقِ جُيُوشِهَا الَّتِي تَسْتَعْبِدُ بِهَا أَهْلَهَا ، وَقَدْ قَرَأْنَا فِي هَذَا الْعَامِ مَقَالَاتٍ لِسَائِحَةٍ أَمِيرِكَانِيَّةٍ طَافَتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الشَّرْقِ الْأَقْصَى ، وَصَفَتْ إِذْلَالَ الْمُسْتَعْمِرِينَ فِيهَا لِلْأَهَالِي بِنَحْوِ جَرِّهِمْ لِعَرَبَاتِهِمْ ، وَالدَّوْسِ عَلَى رِقَابِهِمْ وَظُهُورِهِمْ ، وَإِفْسَادِ أَنْفُسِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ سُمُومِ الْأَفْيُونِ وَالْكُحُولِّ ( الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ السُّمِّ ) ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ بِوَسَائِلَ نِظَامِيَّةٍ - فَذَكَرَتْ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَشْمَئِزُّ نُفُوسُ الرُّحَمَاءِ الْمُهَذَّبِينَ ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْرِبُ مِنْهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي حَرْبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي بِلَادِهِمْ (
أُورُبَّةَ ) مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ ؟ فَهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ قَتْلَى هَذِهِ الْحَرْبِ بَلَغَتْ عَشَرَةَ مَلَايِينَ شَابٍّ ، وَالْمُشَوَّهِينَ الْمُعَطَّلِينَ مِنَ الْجِرَاحِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مِلْيُونًا ، وَأَنَّ نَفَقَاتِ التَّدْمِيرِ قُدِّرَتْ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ جُنَيْهٍ إِنْكِلِيزِيٍّ ، وَهِيَ لَوْ أُنْفِقَتْ عَلَى إِصْلَاحِ كُلِّ مَمَالِكِ الْمَعْمُورَةِ لَكَفَتْ ، وَلَا تَزَالُ الدُّوَلُ الظَّافِرَةُ الْمُسَلَّحَةُ تُرْهِقُ الَّذِينَ لَا سِلَاحَ بِأَيْدِيهِمْ وَتُحَاوِلُ الْإِجْهَازَ عَلَيْهِمْ . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، وَيُفْتَرَضُ الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِيهَا ؟
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلَاهُمَا " أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا ؟ " وَقَدْ شَهِدَ لَنَا الْمُؤَرِّخُونَ الْمُنْصِفُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ . اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاحِمِينَ ، وَأَجِرْنَا مِنْ شَرِّ الْمُفْسِدِينَ الْقُسَاةِ الظَّالِمِينَ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ ( قَرِيبٌ ) وَقَعَتْ خَبَرًا لِلرَّحْمَةِ ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُطَابِقًا لِلْمُبْتَدَإِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ هُنَا " قَرِيبَةٌ " وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا وَتَوْجِيهِهِ بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا مَا بَيْنَ لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ وَبَعْضُهَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ . ( مِنْهَا ) أَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ فَلَا تُتْرَكُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ . ( وَمِنْهَا ) . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ نُكْتَةً جَامِعَةً بَيْنَ التَّوْجِيهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ - أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ هُنَا مُذَكَّرٌ . قِيلَ : هُوَ الْمَطَرُ . وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ الْعَامُّ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقُرْبِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ،
[ ص: 413 ] فَيَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّ إِحْسَانَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=918568 " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَوَقَعَ لَنَا مُسَلْسَلًا عَنْ شَيْخِنَا
الْقَاوُقْجِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) ( 42 : 17 ) وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=63لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) ( 33 : 63 ) وَقَدْ يُعَلِّلُهُ فِيهِمَا بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِهَا وَهُمُ الْجُمْهُورُ . ( وَمِنْهَا ) أَنَّ ( قَرِيبٌ ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ . وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ بِرَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، كَمَا أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَإِجَابَتِهِ مِنَ الدَّاعِينَ . وَكَثِيرًا مَا يُعْطَى الْمُضَافُ صِفَةَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَضَمِيرَهُ ، وَمَهْمَا يَقُلْ فَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ وَرَدَ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَأَعْلَاهُ ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا عَلَّلُوهُ بِهِ لِطَرْدِ قَوَاعِدِهِمْ قَالَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُعْجِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَقُلْ إِنَّ هَذَا مِنَ السَّمَاعِيِّ ، وَمَا هُوَ بِبِدَعٍ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا .