قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها هذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين وأولاهما بالرفض والكراهة ، وهو إنشاء في لفظ الخير ، فإما أن يكون تأكيدا قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العود في ملتهم ، كما يقول القائل : برئت من الذمة ، أو من ديني ، أو من رحمة الله تعالى إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد ، وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر ، وأكد بقد والفعل الماضي ، والمعنى : ما أعظم افتراءنا على الله تعالى إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وهدانا الصراط المستقيم بالحنيفية ملة إبراهيم ، وإذا كان من يتبع ملتكم يعد مفتريا على الله تعالى بقوله عليه ما لا يعلم ، لا بهداية من الوحي ولا برهان من العقل ، فكيف يكون حال من [ ص: 6 ] افترى عليه وضل عن صراطه على علم ؟ وإن كفر الجحود ـ وهو إنكار الحق وغمطه بعد العلم به ـ هو شر أنواع الكفر ، والافتراء على الله تعالى فيه أفظع ضروب الافتراء التي لا يقبل فيها أدنى عذر .
وأنت ترى أن النتيجة أدل من العود على إثبات أنهم كانوا على ملة قومهم حقيقة ، وقد علمت أن المفسرين يجعلونه تغليبا لاستثنائه عليه السلام ، ونقول بناء على ما قررناه من أن عدهم إياه من أهل ملتهم لا يقتضي أنه كان يعبد ما يعبدون ، ويفعل من التطفيف وبخس الناس أشياءهم ما كانوا يفعلون : إنه يصح أن يشمله إنجاء الله تعالى إياه منها ، بمعنى إنجائه من الانتماء إلى ملة ما كان يؤمن بعقيدتها ، ولا يعمل عمل أهلها ، ولا كان يهتدي بعقله ورأيه إلى ملة خير منها ، فكان موقفه موقف الحيرة في شأنها ، كما يؤخذ من قوله تعالى في خطاب النبي الخاتم الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووجدك ضالا فهدى ( 93 : 7 ) وتفسيره بقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ( 42 : 52 ) الآية .