خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا ، وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
وهاك تفسير الآيات بما يدل عليه نظمها العربي ، ويتلوه ما ورد من الروايات فيها ، ونظرة فيها : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها التلاوة : القراءة وإلقاء الكلام الذي يعاد ويكرر للاعتبار به ، والضمير في ( عليهم ) للناس المخاطبين بالدعوة ، وأولهم كفار مكة ، والسورة مكية ، وقيل : لليهود ; لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة . والنبأ : الخبر الذي له شأن ، وهذا الذي آتاه الله آياته من مبهمات القرآن ، لم يبين الله ولا رسوله في حديث صحيح عنه اسمه ولا جنسه ولا وطنه ; لأن هذه الأشياء لا دخل لها فيما أنزل الله تعالى الآيات لبيانه ، وانسلاخه منها : تجرده وانسلاله منها وتركه إياها بحيث لا يلتفت إليها لاهتداء ولا اعتبار ولا عمل ، والتعبير بالانسلاخ المستعمل عند العرب في خروج الحيات والثعابين أحيانا من جلودها يدل على أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا .
فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين أي : فترتب على انسلاخه منها باختياره أن لحقه الشيطان ، فأدركه وتمكن من الوسوسة له ، إذ لم يبق لديه من نور العلم والبصيرة ما يحول دون قبول وسوسته ، وأعقب ذلك أن صار من الغاوين ، أي الفاسدين المفسدين .
ولو شئنا لرفعناه بها أي : ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان ، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( 58 : 11 ) - لفعلنا ، بأن نخلق له الهداية خلقا ، ونحمله عليها طوعا أو كرها ، فإن ذلك لا يعجزنا ، وإنما هو مخالف لسنتنا .
[ ص: 341 ] ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه أي : ولكنه اختار لنفسه التسفل المنافي لتلك الرفعة بأن أخلد ومال إلى الأرض وزينتها ، وجعل كل حظه من حياته التمتع بما فيها من اللذائذ الجسدية ، فلم يرفع إلى العالم العلوي رأسا ، ولم يوجه إلى الحياة الروحية الخالدة عزما ، واتبع هواه في ذلك فلم يراع فيه الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا ، وقد مضت سنتنا في خلق نوع الإنسان بأن يكون مختارا في عمله المستعد له في أصل فطرته ، ليكون الجزاء عليه بحسبه ، وأن نبتليه ونمتحنه بما خلقنا في هذه الأرض من الزينة والمستلذات إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( 18 : 7 ) وتولى كل إنسان منهم ما تولى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( 17 : 18 - 21 ) .
وقد مضت سنتنا أيضا بأن اتباع الإنسان لهواه بتحريه وتشهيه ما تميل إليه نفسه في كل عمل من أعماله ، دون ما فيه المصلحة والفائدة له من حيث هو جسد وروح ، يضله عن سبيل الله الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة ، ويتعسف به في سبل الشيطان المردية المهلكة . قال تعالى لخليفته داود عليه السلام : ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ( 38 : 26 ) وقال تعالى في أول ما أوحاه إلى كليمه موسى عليه السلام بعد ذكر الساعة : فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( 20 : 16 ) وقال جل جلاله لخاتم أنبيائه عليه صلواته وسلامه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ( 25 : 43 ) والآيات في ذم الهوى والنهي عنه كثيرة ، وحسبك منها قوله : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ( 23 : 71 ) .
وحاصل معنى الشرط والاستدراك : أن من شأن من أوتي آيات الله تعالى أن ترتقي نفسه ، وترتفع في مراقي الكمال درجته ، لما فيها من الهداية والإرشاد والذكرى ، وإنما يكون ذلك لمن أخذ هذه الآيات وتلقاها بهذه النية : " وإنما لكل امرئ ما نوى " وأما من لم ينو ذلك لم تتوجه إليه نفسه ، وإنما تلقى الآيات الإلهية اتفاقا بغير قصد ، أو بنية كسب المال والجاه ، ووجد مع ذلك في نفسه ما يصرفه عن الاهتداء بها فلن يستفيد منها ، وأسرع به أن ينسلخ منها ، فهو يقول : لو شئنا لرفعناه بها ; لأنها في نفسها هدى ونور ، ولكن تعارض المقتضى والمانع ، وهو إخلاده إلى الأرض واتباع هواه :
قالوا فلان عالم فاضل فأكرموه مثلما يقتضي
فقلت : لما لم يكن عاملا تعارض المانع والمقتضي
فما قضى منها أحد لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
فكان مثلهم مثل الذي أوتي الآيات فانسلخ منها ، وذلك لا يعيب الآيات ، وإنما يعيب أهل الأهواء الذين حرمهم سوء اختيارهم الانتفاع بها ، وكأين من إنسان حرم الانتفاع بمواهبه الفطرية بعدم استعماله إياها فيما يرفعه درجات في العلم والعمل ، وكأين من إنسان استعمل حواسه في الضر ، وعقله وذكاءه في الشر ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون أي : فاقصص أيها الرسول قصص ذلك الرجل المشابهة حاله لحال هؤلاء المكذبين بما جئت به من الآيات البينات في مبدأ أمره وغايته ، ومعناه وصورته ، رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم ، وقبح مثلهم على التفكر والتأمل ، فإذا هم تفكروا في ذلك تفكروا في المخرج منه ، ونظروا في الآيات ، وما فيها من البينات بعين العقل والبصيرة ، لا بعين الهوى والعداوة ، ولا طريق لهدايتهم غير هذه ، والآية تدل على تعظيم شأن ضرب الأمثال في تأثير الكلام ، وكونه أقوى من سوق الدلائل والحجج المجردة ، ويدل على تعظيم شأن التفكر ، وكونه مبدأ العلم وطريق الحق ; ولذلك [ ص: 343 ] حث الله عليه في مواضع من كتابه ، وبين أن الآيات والدلائل إنما تساق إلى المتفكرين ;لأنهم هم الذين يعقلونها وينتفعون بها .
وقد تكرر قوله تعالى : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون في عدة سورة من القرآن ، وقد قال تعالى ضاربا مثلا للحياة الدنيا والغرور بها يناسب سياقنا هذا : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( 10 : 24 ) وقد قال بعض علماء الغرب : إن الفارق الحقيقي بين الإنسان المدني ، والإنسان الوحشي هو التفكر انتهى . فبقدر التفكر في آيات الله تعالى المنزلة على رسوله ، وآياته في الأنفس والآفاق ، وسننه وحكمه في البشر وسائر المخلوقات ، يكون ارتقاء الناس في العلوم والأعمال ، من دينية ودنيوية .