nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29nindex.php?page=treesubj&link=28979_19863_19882_19883يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم [ ص: 538 ] هذه الآية آخر وصايا المؤمنين في هذا السياق وهي أعمها ، والأصل الجامع لها ولغيرها ، وكلمة " الفرقان " فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة ، فالتقوى هي الشجرة ، والفرقان هو الثمرة ، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق ، ومعناها في أصل اللغة : الفصل بين الشيئين أو الأشياء ، والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح والحكم الحق فيها ، ولذلك فسروه بالنور ، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل ، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص ، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات ، والبسائط والمركبات ، والنسب بين أجزاء المركبات ، من الحسيات والمعنويات ، ويبين كل شيء من ذلك ، ويعطيه حقه الذي يكون به ممتازا من غيره . وإيراد الأمثلة على ذلك يطول فيشغل عن القدر المحتاج إليه في تفسير لفظ " الفرقان " إلا أن نترك عوالم المادة وقواها ونأتي بمثال من اللغة; لأن لفظ الفرقان من مفرداتها ، فنقول : إن العامي يعلم من اللغة أمرا إجماليا ، وهو أنها ألفاظ يعبر بها الإنسان عما يحتاج إلى بيانه من علمه ، ومن العلم التفصيلي فيها ما هو مبين في علم النحو والصرف ، وفي علوم المعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق وأصول الفقه - كالعام والخاص والمطلق والمقيد من الأخير مثلا - وأنت ترى أنك بهذا البيان الوجيز لمعنى الفرقان قد اتضح لك من دلالته على العلم الصحيح ، والحكم الرجيح ما كان خفيا ، وفصل منها ما كان مجملا ، ولذلك نعده من تفسير اللفظ لا استطرادا أجنبيا ، ولا سيلا أتيا ، كأكثر الذي يأتيه أكثر المفسرين من مباحث النحو وفنون البلاغة وغيرها .
وكما يكون الفرقان في مسائل العلوم وموادها من طبيعية وعقلية ولغوية ، وفي الموجودات التي استنبطت العلوم منها ، يكون في الأحكام والشرائع والأديان ، وفي الحكم بين الناس في المظالم والحقوق وفي الحروب ، وقد أطلق الفرقان على أشهر الكتب الإلهية وهي التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على القرآن
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=1تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ( 25 : 1 ) ; لأن كلام الله تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر والحق والباطل ، وفي الأحكام بين العدل والجور ، وفي الأعمال بين الصحيح والفاسد والخير والشر . وأطلق هذا اللفظ على يوم بدر كما سيأتي في هذه السورة مع بيان وجهه ، ومتعلق فصله وتفرقته .
فقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا معناه: إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه ، وبمقتضى سننه في نظام خلقه ، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل ، وتفصلون بين الضار والنافع ، وتميزون بين النور والظلمة ، وتزيلون بين الحجة والشبهة . وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل ،
[ ص: 539 ] وهو عين ما فصلناه من الفرقان العلمي الحكمي ، وعن بعضهم بالنصر يفرق بين المحق والمبطل ، بما يعز المؤمن ويذل الكافر ، وبالنجاة من الشدائد في الدنيا ، ومن العذاب في الآخرة . وهذا من الفرقان العملي الذي هو ثمرة العلمي . ذكر كل ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك ، ولم يقصد تحديد المدلول اللغوي ، ولا المعنى الكلي الذي هو ثمرة التقوى بأنواعها ، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى ، هو الحكمة التي قال الله فيها :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ( 2 : 269 ) فهو كعهد الله في إمامة الناس بالحق لا ينال الظالمين لأنفسهم بالتقليد لغيرهم لاحتقارها في جنب إطرائهم لمقلديهم ، بل هم لا يطلبونه ولا يقصدون الوصول إليه; لأنهم صدقوا بعض الجاهلين في ادعائهم إقفال بابه ، وكثافة حجابه ، بل أصحابه هم الأئمة المجتهدون في الشرع والدين والواضعون للعلوم التي تنفع الناس ، وكان لشيخنا الأستاذ الإمام حظ عظيم منه .
أمر الله - تعالى - في مواضع كثيرة من كتابه باتقائه ، وباتقاء النار ، وباتقاء الشرك والمعاصي ، وباتقاء الفتن العامة في الدول والأمم ، وتقدم في وصايا هذا السياق - وباتقاء الفشل والخذلان في الحرب ، وباتقاء ظلم النساء ، وبين أن العاقبة في إرث الأرض للمتقين ، كما أن الجنة في الآخرة للمتقين ، وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( 65 : 2 ، 3 )
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=5ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ( 65 : 5 ) وأمثال ذلك في
nindex.php?page=treesubj&link=19862التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير ، فمعنى التقوى العامة اتقاء كل ما يضر الإنسان في نفسه ، وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد ، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة ، والكمال الممكن ، ولذلك قال العلماء : إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي ما يستطاع من الطاعات ، وزدنا على ذلك : اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون ، كالنصر على الأعداء ، وجعل كلمة الله هي العليا في الأرض كما هي في الواقع ونفس الأمر ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى كذلك . وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسنة - وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى في الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه في آيات من كتابه ، ومن ثم كانت
nindex.php?page=treesubj&link=19881_19882_19883ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل ، فيفصل فيها بين ما يجب قبوله ، وما يجب رفضه ، وبين ما ينبغي فعله ، وما يجب تركه ، وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى كالفتن في السياسة والرياسة والحلال والحرام والعدل والظلم ، فكل متق لله في شيء يؤته فرقانا فيه ، وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم في الأرض حتى في عهد الفتح . قال بعض حكماء الإفرنج : ما عرف التاريخ فاتحا
[ ص: 540 ] أعدل ولا أرحم من العرب ، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرياسة لقلة اختبارهم فعوقبوا عليها بتفرقهم فضعفهم فزوال ملكهم ، وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة ، وحرمانهم من فرقانها ، فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم مع جهل هذا الفرقان المبين ، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس ، المؤهلة لها للإصلاح في الأرض ، بل مع انغماسهم في السكر والفواحش ; لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا في دنياهم بفساقهم وفجارهم ، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم ، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم هذا عطف على
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29يجعل لكم فرقانا أي: ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم ، فتزول منها داعية العود إليها المؤدي إلى الإصرار المهلك ، ويغفرها لكم بسترها ، وترك العقاب عليها
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29والله ذو الفضل العظيم ومن أعظم فضله أن جعل هذا الجزاء العظيم بقسميه السلبي والإيجابي جزاء للتقوى وأثرا لها .
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29nindex.php?page=treesubj&link=28979_19863_19882_19883يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ ص: 538 ] هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ وَصَايَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهِيَ أَعَمُّهَا ، وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا ، وَكَلِمَةُ " الْفُرْقَانِ " فِيهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَكَلِمَةِ التَّقْوَى فِي مَجِيئِهَا هُنَا مُطْلَقَةً ، فَالتَّقْوَى هِيَ الشَّجَرَةُ ، وَالْفُرْقَانُ هُوَ الثَّمَرَةُ ، وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْفَرْقِ ، وَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ : الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ وَالْحُكْمُ الْحَقُّ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِالنُّورِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْوَسِيلَةُ لِلْخُرُوجِ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ وَالْأَشْخَاصِ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بَيْنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ ، وَالْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ ، وَالنِّسَبِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ ، مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُعْطِيهِ حَقَّهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُمْتَازًا مِنْ غَيْرِهِ . وَإِيرَادُ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ فَيَشْغَلُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ " الْفُرْقَانِ " إِلَّا أَنْ نَتْرُكَ عَوَالِمِ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا وَنَأْتِيَ بِمِثَالٍ مِنَ اللُّغَةِ; لِأَنَّ لَفْظَ الْفُرْقَانِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا ، فَنَقُولُ : إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْلَمُ مِنَ اللُّغَةِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا ، وَهُوَ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ يُعَبِّرُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ مِنْ عِلْمِهِ ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فِيهَا مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ ، وَفِي عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْوَضْعِ وَالِاشْتِقَاقِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ - كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ مِنَ الْأَخِيرِ مَثَلًا - وَأَنْتَ تَرَى أَنَّكَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ لِمَعْنَى الْفُرْقَانِ قَدِ اتَّضَحَ لَكَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ ، وَالْحُكْمِ الرَّجِيحِ مَا كَانَ خَفِيًّا ، وَفَصَّلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُجْمَلًا ، وَلِذَلِكَ نَعُدُّهُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ لَا اسْتِطْرَادًا أَجْنَبِيًّا ، وَلَا سَيْلًا أَتِيًّا ، كَأَكْثَرِ الَّذِي يَأْتِيهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّحْوِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا .
وَكَمَا يَكُونُ الْفُرْقَانُ فِي مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَمَوَادِّهَا مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ ، وَفِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتِ الْعُلُومُ مِنْهَا ، يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ ، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَفِي الْحُرُوبِ ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْفُرْقَانُ عَلَى أَشْهَرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وَغَلَبَ عَلَى الْقُرْآنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=1تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 25 : 1 ) ; لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى يُفَرِّقُ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَفِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ بَيَانِ وَجْهِهِ ، وَمُتَعَلِّقِ فَصْلِهِ وَتَفْرِقَتِهِ .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا مَعْنَاهُ: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ فِي كُلِّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى بِمُقْتَضَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ ، وَبِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ ، يَجْعَلْ لَكُمْ بِمُقْتَضَى هَذِهِ التَّقْوَى مَلَكَةً مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَتَفْصِلُونَ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ ، وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ ، وَتُزِيلُونَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالشُّبْهَةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْفُرْقَانِ هُنَا بِنُورِ الْبَصِيرَةِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ،
[ ص: 539 ] وَهُوَ عَيْنُ مَا فَصَّلْنَاهُ مِنَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْحُكْمِيِّ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ ، بِمَا يُعِزُّ الْمُؤْمِنَ وَيُذِلُّ الْكَافِرَ ، وَبِالنَّجَاةِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا ، وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ . وَهَذَا مِنَ الْفُرْقَانِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِيِّ . ذَكَرَ كُلَّ مَا رَآهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ وَقْتِهِ أَوْ حَالِ مَنْ لَقَّنَهُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْدِيدَ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ ، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّقْوَى بِأَنْوَاعِهَا ، وَهَذَا النُّورُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( 2 : 269 ) فَهُوَ كَعَهْدِ اللَّهِ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِهِمْ لِاحْتِقَارِهَا فِي جَنْبِ إِطْرَائِهِمْ لِمُقَلِّدِيهِمْ ، بَلْ هُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا بَعْضَ الْجَاهِلِينَ فِي ادِّعَائِهِمْ إِقْفَالَ بَابِهِ ، وَكَثَافَةَ حِجَابِهِ ، بَلْ أَصْحَابُهُ هُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْوَاضِعُونَ لِلْعُلُومِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ ، وَكَانَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُ .
أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاتِّقَائِهِ ، وَبِاتِّقَاءِ النَّارِ ، وَبِاتِّقَاءِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، وَبِاتِّقَاءِ الْفِتَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ ، وَتَقَدَّمَ فِي وَصَايَا هَذَا السِّيَاقِ - وَبِاتِّقَاءِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْحَرْبِ ، وَبِاتِّقَاءِ ظُلْمِ النِّسَاءِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ لِلْمُتَّقِينَ ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( 65 : 2 ، 3 )
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=5وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ( 65 : 5 ) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=19862التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَجْرِهَا وَعَاقِبَتِهَا كَثِيرٌ ، فَمَعْنَى التَّقْوَى الْعَامَّةِ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ ، وَفِي جِنْسِهِ الْإِنْسَانِيِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ الْحَسَنَةِ ، وَالْكَمَالِ الْمُمْكِنِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ : اتِّقَاءَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ ، كَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ ، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى كَذَلِكَ . وَكَمَالُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَكَمَالُ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعًا وَمُنْفَرِدًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=19881_19882_19883ثَمَرَةُ التَّقْوَى الْعَامَّةُ الْكَامِلَةُ هُنَا حُصُولَ مَلَكَةِ الْفُرْقَانِ الَّتِي يُفَرِّقُ صَاحِبُهَا بِنُورِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَحُكْمٍ وَعَمَلٍ ، فَيَفْصِلُ فِيهَا بَيْنَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ ، وَمَا يَجِبُ رَفْضُهُ ، وَبَيْنَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ ، وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ ، وَتَنْكِيرُ الْفُرْقَانِ لِلتَّنْوِيعِ التَّابِعِ لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى كَالْفِتَنِ فِي السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ ، فَكُلُّ مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتِهِ فُرْقَانًا فِيهِ ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْعَرَبِ أَعْدَلَ حُكَّامِ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى فِي عَهْدِ الْفَتْحِ . قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ : مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا
[ ص: 540 ] أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّقُوا فِتَنَ السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ لِقِلَّةِ اخْتِبَارِهِمْ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِتَفَرُّقِهِمْ فَضَعْفِهِمْ فَزَوَالِ مُلْكِهِمْ ، وَكَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعَاجِمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى الْوَاجِبَةِ ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ فُرْقَانِهَا ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ مَجْدَهُمْ مَعَ جَهْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ الْمُبِينِ ، وَعَدَمِ الِاعْتِصَامِ بِالتَّقْوَى الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ ، الْمُؤَهِّلَةِ لَهَا لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ ، بَلْ مَعَ انْغِمَاسِهِمْ فِي السُّكْرِ وَالْفَوَاحِشِ ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَقَّوْا فِي دُنْيَاهُمْ بِفُسَّاقِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَرَقَّوْا بِحُكَمَائِهِمْ وَأَبْرَارِهِمُ ، الَّذِينَ وَقَفُوا حَيَاتَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هَذَا عَطْفٌ عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ: وَيَمْحُو بِسَبَبِ هَذَا الْفُرْقَانِ وَتَأْثِيرِهِ مَا كَانَ مِنْ تَدْنِيسِ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، فَتَزُولُ مِنْهَا دَاعِيَةُ الْعَوْدِ إِلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِصْرَارِ الْمُهْلِكِ ، وَيَغْفِرُهَا لَكُمْ بِسَتْرِهَا ، وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَعْظَمِ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ جَزَاءً لِلتَّقْوَى وَأَثَرًا لَهَا .