علاوات التفسير قصة نوح - عليه السلام -
العلاوة الأولى ، البلاغة الفنية في الآية 44
سبق لنا أن قلنا في الكلام على ، ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية ، بله الجمع بينهما ، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز ، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله ، قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله - تعالى - وحجة على نبوة إعجاز القرآن ببلاغته محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة ، فمثلهم كمثل حذاق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل هور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته ، أو المصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وأمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة : كالخوف والفزع ، والحزن والغم ، والغضب ، ونظر الإقرار ، ونظر الإنكار ، ونظر الشهوة ، ونظر العطف والرحمة ، ونظر الإعجاب والعجب ، ونظر المتفكر والمتحير ، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها ، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة .
ومن المعلوم من تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع فصحاء قريش وغيرهم ، أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح لمعارضة القرآن بعد تحديهم بسورة مثله مطلقا ، والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى ، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن ، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس على كثرة بلغائهم وفصحائهم ، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم [ ص: 76 ] الشعر من حيث لا يرونهم ، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله - تعالى - على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم ، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال ، وما أعقبهم من خسارة المال ، وسبي النساء والأطفال ، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال ، وروي أن كبراءهم عزموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية ( وقيل ياأرض ) فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم كما يأتي قريبا .
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها ، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح . وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول .
مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها ، والعدل في الحكم بينها ، وأما الجمال المعنوي - وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب - فليس له مقياس ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح ، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية ، لا بأوزان صناعية ، كما قال الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول ، وكل منهما كامل في بابه ، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب ، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها ، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات ، وقد تجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات ، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات ، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة ، وتكلم صاحب ( الطراز في علوم الإعجاز ) عليها في 25 صفحة ، ولعله أحسنهم فيها كلاما ، وإن كان السكاكي هو السابق إليه ، وكلهم فيه عيال عليه ، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الألوسي في ( ( روح المعاني ) ) من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال : [ ص: 77 ] ( ( واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها ، واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها ، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان ، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان .
( ( يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم ، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا .
ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان - كما في القاموس - فصيحا بليغا ، بل قيل إنه أفصح أهل وقته ، رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا ، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر .
ولا يخفى أن هذا لا يستدعي ألا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا ، لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا ، وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة ، أعني : ما تنتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه ، والثاني : ما يقرب من ذلك الطرف ، أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا .
( ( ، هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها ، سواء كانت من القسم الأول أو الثاني ، فلا يضر تفاوتها في البلاغة ، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن . ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها
( ( وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون ، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون ، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل ، وتذكيرا لفاضل غافل ، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع ، أولها جهة علم البيان :
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، وهما مرجعا البلاغة . ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية ، أما النظر فيها من جهة علم البيان - وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض - فهو أنه - عز سلطانه - لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح - عليه السلام - وهو إنجاز ما كنا [ ص: 78 ] وعدناه من إغراق قومه فقضي ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى - بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته من الآمر - العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم ، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته - تعالى - إيجادا وإعداما ، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا ، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه - جل شأنه - حق معرفته ، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره ، والإذعان لحكمه ، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده ، وتصوروا مزيد اقتداره ، فعظمت مهابته في نفوسهم ، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم ، فكما يلوح لهم إشارته - سبحانه - كان المشار إليه مقدما ، وكما يرد عليهم أمره - تعالى شأنه - كان المأمور به متمما ، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال .
( ( ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال - جل وعلا - : ( قيل ) على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب ; لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة ، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو ( ياأرض ) ( ويا سماء ) إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ، ولا يصح القول له . ثم قال سبحانه كما ترى : ( ياأرض ) ( ويا سماء ) مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور . والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية ، حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر ، وأريد المشبه به ، أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه ، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا . وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب ، وليس بشيء ، إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء ، بل تبعا لتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل .
( ( ثم استعار لغئور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي . وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء هو أولى ، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ، ولأن النشف فعل الأرض ، والغئور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا .
ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ( ابلعي ) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء .
( ( ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة ، يكون ( ابلعي ) [ ص: 79 ] استعارة تصريحية ، ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في : ( ينقضون عهد الله ) وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل . وهو بعيد ، أو يحمل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال ، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور .
( ( ثم إنه - تعالى - أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني ، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء ، والحاصل أن في لفظ ( ابلعي ) باعتبار جوهره استعارة لغئور الماء ، وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد ; وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى ، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها . وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه .
( ( ثم قال جل وعلا : ( ماءك ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح . وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية ، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء .
( ( ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ، ففي ( أقلعي ) استعارة باعتبار جوهره ، وكذا باعتبار صيغته أيضا ، وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء ، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابلعي .
ثم قال سبحانه : ( وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا ) فلم يصرح - جل وعلا - بمن غاض الماء ، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة ، وقال : بعدا كما لم يصرح - سبحانه - بقائل : ( ياأرض ) ( ويا سماء ) في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية ; لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه ، قهار لا يغالب ، فلا محال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا : ( ياأرض ) ( ويا سماء ) ، ولا غائضا ما غاض ، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره .
( ( والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبنى الفعل لمفعوله ، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل ويسند إلى ذلك المفعول ، فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها ، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية [ ص: 80 ] هنا : إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل وتعيينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم ; لما أن ( واستوت ) غير مبني للمفعول - كـ ( قيل ) ، ( وغيض ) .
( ( ثم إنه - تعالى - ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل - عليهم السلام - ظلما لأنفسهم لا غير ، ختم إظهارا لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه ، وإن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم ، كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم ، والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به ، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس ، وقد يقال في المعقول نحو : ضلوا ضلالا بعيدا 4 : 167 واستعماله في الهلاك مجاز .
( ( قال ناصر الدين : يقال : بعد بعدا بضم فسكون ، وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال : البعد معروف والموت وفعلهما ككرم بعدا وبعدا فافهم .
( ( وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر ، فقيل لهما حقيقة ما قيل ، وأن القائل ( بعدا ) نوح - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه ، والكلام على الأول أبلغ .
بلاغة الآية من جهة علم المعاني :
( ( وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال ، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ، ولم يقل : يا أرض بالكسر ; لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون ، ولم يقل : يا أيتها الأرض ! مع كثرته في نداء أسماء الأجناس ، قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام ، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء ، وكالمضلة والخضراء ; لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال ، وأوفى بالمطابقة ، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين ، واختير لفظ ( ابلعي ) على ابتلعي ; لكونه أخصر وأوفر تجانسا بـ ( أقلعي ) ; لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف ، وإلا تقاربا فيه ، بخلاف ابتلعي ، وقيل : ( ماءك ) بالإفراد دون الجمع ; لما فيه من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء ، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء ، وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور .
[ ص: 81 ] ( ( ولما علم أن المراد بلع الماء وحده ، علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء . فلم يذكر متعلق أقلعي اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه ، وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر ، فلم يقل : قيل يا أرض ابلعي فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت ; لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة ، واختير وغيض على غيض المشدد لكونه أخصر ، وقيل : الماء دون ماء طوفان السماء ، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد ; لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك ، لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفة ، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود .
( ( واختير واستوت على ( ( سويت ) ) أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول ، اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار - أعني الجريان - منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله - تعالى - : ( وهي تجري بهم ) مع أن واستوت أخصر من سويت ، واختير المصدر أعني بعدا على ليبعد القوم ، طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول بعدا وحده منزلة : ليبعدوا بعدا ، مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام ، وإطلاق الظلم عن مقيداته في قمام المبالغة يفيد تناول كل نوع . فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب ، من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلما على أنفسهم ، لأن ضرره يعود إليهم .
( ( هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم ، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل : ( ياأرض ابلعي ) ( ويا سماء أقلعي ) دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، وأقلعي يا سماء ، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى . قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل ، نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا ، ثم جعل قوله سبحانه : ( وغيض الماء ) تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : وقيل ياأرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا : لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه : ( ابلعي ماءك ) واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين : الأرضي والسمائي . وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه ، ولهذا حمل الماء على مطلقه ، وأشعر كلامه بأن : وغيض الماء إخبار عن حصول المأمور به من قوله سبحانه : ( الزمخشري ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) ، فالتقدير : قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء .
[ ص: 82 ] ( ( ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي ، زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره ، فقال : إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ، ولذا جيء بضمير الخطاب ، اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع ، وهو المعهود في قوله - تعالى - : ( الزمخشري وفار التنور ) ( 40 ) وبهذا الاعتبار يحصل التوغل في تناسي التشبيه والترشيح ، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد ، وكم بينهما ؟
( ( هذا ولو حمل على العموم لاستلزم تعميم ابتلاع المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي وليس بذاك ، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين ؟ إذ لا معهود ، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية . ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ، ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك ، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه ابلعي فبلعت ؟ وقوله - تعالى - وغيض ، ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان .
( ( هذا والمطابق تفسير ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : فالتقى الماء 54 : 12 أي الأرضي والسمائي ، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه : ( ماءك ) ( الزمخشري ويا سماء أقلعي ) لأن تقديره : عن إرسال الماء على زعمهم ، فإذا قيل : وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما . ثم إذا جعل من توابع أقلعي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة ، أعني : ( وقيل ياأرض ابلعي ) كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية ، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب ، وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى ألبتة اهـ .
( ( وزعم الطبرسي أن أئمة البيت - رضي الله تعالى عنهم - على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار ، وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير ، وأن ماء السماء صار بحارا وأنهارا .
( ( وأخرج من طريق ابن عساكر الكلبي عن ما يؤيده ، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام ابن عباس السكاكي مخالفة ظاهرة ، وفي القلب من صحته ما فيه .
( ( ثم إنه - تعالى - أتبع - وغيض الماء - ما هو المقصود الأصلي من القصة ، وهو قوله جلت عظمته : ( وقضي الأمر ) ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود ، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته .
[ ص: 83 ] مزايا الآية من جهة الفصاحة المعنوية واللفظية :
( ( هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة ، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك ، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك .
( ( وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية ، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة ، ولله - تعالى - در التنزيل ماذا جمعت آياته !
وعلى تفنن واصفيه بحسنه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
( ( وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض ، وزهرة من رياض .
: ( ( وقد ذكر مزايا الآية من جهة المحسنات البديعية ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة ، وذلك : المناسبة التامة في ابلعي وأقلعي ، والاستعارة فيهما ، والطباق بين الأرض والسماء ، والمجاز في يا سماء فإن الحقيقة يا مطر السماء ، والإشارة في ( وغيض الماء ) فإنه عبر به عن معان كثيرة ; لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على الأرض ، والإرداف في ( واستوت ) والتمثيل في ( وقضي الأمر ) والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء ، وصحة التقسيم ، فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه ، والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك ، فإن عدله - تعالى - يمنع أن يدعو على غير مستحق ، وحسن النسق ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، والإيجاز فإنه - سبحانه - قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة ، والتسهيم ; لأن أول الآية يدل على آخرها ، والتهذيب ; لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن ، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه ، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها ، والانسجام ، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي [ ص: 84 ] الأصبع : الاعتراض ، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض .
( ( وقد ألف شيخنا علاء الدين - أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين - رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها ، فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية ، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها ، وكأن طوفان الحوادث أغرقها ، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز ، والله - تعالى - الموفق للصواب ، وعنده علم الكتاب ) ) انتهى .