[ ص: 184 ] أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين بعد تبرئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الغلول وبيان ما بعث لأجله عاد الكلام إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة في وقعة أحد والرد على المنافقين وبيان ضلالهم في أقوالهم وأفعالهم قال - تعالى - : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قال المفسرون : إن الاستفهام الأول للتقريع و ( لما ) بمعنى " حين " والمصيبة ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم - وقد تقدم بيانه - والمشهور أن معنى إصابتهم مثليها هو كونهم قتلوا في بدر سبعين من المشركين ، وأسروا سبعين ، والمشركون لم يقتلوا منهم يوم أحد غير سبعين رجلا . فجعل الأسرى في حكم القتلى للتمكن من قتلهم ، وقال بعضهم : إن المراد بالمصيبة الهزيمة ، وبالمثلين هزيمة المؤمنين للمشركين يوم بدر وهزيمتهم إياهم يوم أحد .
ويحتمل أن يكون ما نالوه يوم أحد من المشركين في أول الأمر هو مثلي ما ناله المشركون منهم في ذلك اليوم بعد ترك الرماة مركزهم وإخلائهم ظهور المسلمين لخيل المشركين - راجع ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [ 3 : 152 ] وأما قولهم : أنى هذا ! ! فهو تعجب منهم ; أي من أين جاءنا هذا المصاب . قال الأستاذ الإمام : الكلام إنكار لتعجبهم وبيان لمنة الله - تعالى - عليهم حتى في وقعة أحد ، فإن خذلانهم فيها لم يبلغ ظفرهم في بدر ، بل كان نصرهم ضعفي انتصار المشركين هنا كأنه يقول : لماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه ؟ وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه ومصدره ! [ ص: 185 ] وقال المفسرون : إن سبب تعجبهم مما أصابهم هو اعتقادهم أنهم لا بد أن ينتصروا وهم مسلمون يقاتلون في سبيل الله وفيهم رسوله - وتقدم كشف هذه الشبهة في تفسير الآيات السابقة - وقد ذكر هنا تعجبهم ليبني عليه هذا الجواب وما فيه من الحكم لأولي الألباب وهو :
قل هو من عند أنفسكم فإنكم أخطأتم الرأي بخروجكم من المدينة إلى أحد ، وكان الرأي ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من البقاء فيها حتى إذا ما دخلها المشركون عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل ، وروي هذا عن الربيع ، ثم إنكم فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم الرسول طمعا في الغنيمة ، ففارق الرماة منكم موقعهم الذي أقامهم فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكر عليكم من ورائكم ، هذا المتبادر المشهور والمعقول المعنى الموافق لقاعدة كون العقوبات آثارا لازمة للأعمال . وروي عن عكرمة ويروى عن الحسن أن ما حصل يوم أحد من المصيبة كان عقابا على أخذ الفداء عن أسرى بدر الذي عاتب الله عليه نبيه بقوله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [ 8 : 67 ] إلخ . وقووه بما رواه ابن أبي شيبة وحسنه ، والترمذي عن والنسائي علي - رضي الله عنه - قال : " جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : يا محمد إن الله - تعالى - قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم ، فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر . وأقول ما أرى أن هذا يصح عن جاء علي - رضي الله عنه - ، فإنه بعيد عن المعقول وكيف يصح والمأثور أن أخذ الفداء كان من رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأي أبي بكر - رضي الله عنه - ، وحاشا لهم أن يرضيا بأخذ مال يعاقبون عليه بقتل سبعين مؤمنا ! ! وقد تقدم لنا بحث كون العقوبات آثارا طبيعية للأعمال فليرجع إليه من شاء .
إن الله على كل شيء قدير ، لا يعجزه تنفيذ سننه بعقاب المسيء وإثابة المحسن وإقامة النظام العام في الكائنات ، بربط الأسباب بالمسببات ، فلا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر ولا بر ولا فاجر . قال الأستاذ الإمام : بناء على كون وجه تعجبهم هو وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم . أي إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينفع أمة قد خالفت السنن والطبائع فلا تغتروا بوجودكم معه ، مع المخالفة لله وله ، فهو لا يحميكم مما تقتضيه سنن الله فيكم ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله - تعالى - : أولما فيه وجهان : أحدهما أن همزة الاستفهام قدمت على الواو لأن لها الصدارة ، والواو عاطفة للجملة الاستفهامية .
[ ص: 186 ] وثانيهما : أن الواو عاطفة لما بعدها على محذوف قبلها هو الجملة الاستفهامية والتقدير : أخطأتم الرأي في الخروج إلى أحد وفعلتم من الفشل والعصيان ، ولم تبالوا بذلك وتفكروا في عاقبته ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا تعجبا منه واستغرابا ! ! وقدر بعضهم غير ذلك .