بين - سبحانه وتعالى - حال المنافقين في قعودهم عن القتال في سبيل الله والدفاع عن الحقيقة وتثبيطهم إخوانهم قبل القتال وبعده ، وقولهم فيمن قتلوا إنهم لو أطاعوهم ما قتلوا وبين أفنهم وفساد رأيهم في التوقي من الموت بعدم القتال والدفاع وهو في الحقيقة من أسباب الهلاك لا من أسباب السلامة ، وبعد هذا كله أراد أن يبين حال من يقتل في سبيل الله ، وأنه لا يكون بحيث يظن أولئك السفهاء في موتهم فقال - عز وجل - :
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا أخرج وغيره من حديث الإمام أحمد ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس - وفي لفظ - لما أصيب إخوانكم بأحد جعل [ ص: 191 ] الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، فقال الله - تعالى - ما معناه : " أنا أبلغهم عنكم " فأنزل الله هذه الآيات . وأخرج قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب الترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه وغيرهما من حديث ( رضي الله عنه ) قال : جابر بن عبد الله جابر ! مالي أراك منكسرا ؟ فقلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال : ألا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت : بلى . قال : ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن على أعطك . قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية . قال الرب - تعالى - : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي ربي فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله هذه الآية قالوا : ولا تنافي بين الروايتين لجواز وقوع الأمرين ونزول الآية فيهما معا . وأقول : إن الآية متصلة بما قبلها متممة له ، فإذا صح الخبران فهما من جملة وقائع غزوة لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أحد التي نزل فيها هذا السياق كله ، والمعنى : لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه فيؤثرون الدنيا على الآخرة لو أطاعونا ما قتلوا أن من قتلوا في سبيل الله أموات قد فقدوا الحياة وصاروا عدما . وقرأ ابن عامر قتلوا بضم القاف وتشديد التاء للمبالغة بل هم أحياء عند ربهم يرزقون في عالم غير هذا العالم هو خير منه للشهداء وغيرهم من الصالحين ، ولكرامته وشرفه أضافه الرب - تعالى - إليه فهذه العندية عندية شرف وكرامة لا مكان ومسافة . وقيل عندية علم وحكم ، وإذا كان الأمر كذلك فليس يضير أولئك الذين قتلوا في سبيل الله قتلهم ، وليس ما صاروا إليه دون ما كانوا فيه فلو فرضنا أن الخروج إلى القتال سبب مطرد للقتل لا يتخلف كما يوهم كلام المنافقين لما صح أن يكون مثبطا للمؤمن عن الجهاد عند وجوبه بمثل مهاجمة المشركين للمؤمنين في أحد ، أو بفتنة المسلمين عن دينهم ومنعهم من الدعوة إليه وإقامة شعائره ، وهو ما كان عليه جميع مشركي العرب في زمن البعثة ، فكيف والخروج إلى القتال هو سبب للسلامة في الغالب ; لأن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع غيرها فيها ، فإذا هاجمها الأعداء ظفروا بها ونالوا ما يريدون منها .
وقد ذكرنا الخلاف في هذه الحياة في تفسير قوله - تعالى - : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ 2 : 154 ] وأن المختار فيها أنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئا فلا نقول كما قال بعض متكلمي المعتزلة إن المراد بقوله بل أحياء أنهم سيكونون في أحياء الآخرة ، فإن ظاهر الآية [ ص: 192 ] أنهم أحياء مذ قتلوا ، ولا تخصيص في قولهم للشهداء ولا يتفق مع ما يأتي ، ولا بقول من قال : إنهم أحياء بحسن الذكر وطيب الثناء كما يقال " من خلف مثلك ما مات " وقال الشاعر :
يقولون : إن المرء يحيا بنسله وليس له ذكر إذا لم يكن نسل فقلت لهم : نسلي بدائع حكمتي
فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو
ولا بقول من قال : إنهم أحياء بأجسادهم كحياتنا الدنيا يأكلون ويشربون وينكحون في قبورهم كسائر أهل الدنيا ، ولا بقول من يقول إن أجسادهم ترفع إلى السماء ، قال الإمام الرازي في القائلين بأنها حياة جسدية ما نصه : " والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم : إنه - تعالى - يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات إليها ، ومنهم من قال : يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها ، ومن الناس من طعن فيه وقال : إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع فإما أن يقال : إن الله يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها . أو يقال : إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها ، وكل ذلك مستبعد ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل منه القيح والصديد ، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة " اهـ . قال الأستاذ الإمام : وتطرف جماعة فزعموا أن حياة الشهداء كحياتنا هذه في الدنيا يأكلون أكلنا ويشربون شربنا ويتمتعون تمتعنا ، وهو قول لا يصدر عن عاقل ، لأن من الشهداء من يحرق بالنار ومن تأكله السباع أو الأسماك . وقال بعضهم : المراد أن أجسادهم لا تبلى ولم يزد على ذلك ، ولكن هذا لم يثبت ، على أن الجسد لا ثمرة له إذا خرجت منه الروح .
وجملة القول أن بعضهم يقول : إن هذه الحياة مجازية ، وبعضهم يقول : إنها حقيقية ومن هؤلاء من يقول : إنها دنيوية ، ومنهم من يقول : إنها أخروية ولكن لها ميزة خاصة ، ومنهم من يقول : إنها واسطة بين الحياتين . وقد تقدم أن المختار عندنا هو عدم البحث في كيفية هذه الحياة وذكرنا في آية البقرة بحث ما ورد من كون أرواحهم تكون في حواصل طير خضر فراجعه ( ج2ص 32ط . الهيئة المصرية العامة للكتاب )