nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28974_30797ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب قرأ
حمزة : " يميز " بتشديد الياء من التمييز ، والباقون بتخفيفها من ماز . قال الأستاذ الإمام : كان الكلام مسترسلا في بيان حال المؤمنين في وقعة
أحد ، وما بعدها ، وجاء في السياق بيان حال من ظهر نفاقهم ، وضعفهم ، وبيان حال المجاهدين ، والشهداء ومن هم بمنزلة الشهداء ، وحال الكفار المهددين للمسلمين . وكون الإملاء لهم ، واستدراجهم بطول البقاء في الدنيا ليس خيرا لهم ، وقد كانت وقعة
أحد أشد وقعة أحس المسلمون عقبها بألم الغلب ، لأنهم لم يكونوا يتوقعونه بعد رؤية بوادر النصر في "
بدر " ، ولأنه ظهر فيها حال المنافقين ، وتبين ضعف نفوس بعض المؤمنين الصادقين ، ولذلك كانت عناية الله - تعالى - ببيان فوائد المسلمين فيها عظيمة . ومنها ختمها بهذه الآية الكريمة المبينة لسنة من السنن التي ذكرت في سياق تلك الآيات الحكيمة ، والمعنى : ما كان من شأن الله تعالى ، ولا من سنته في عباده
[ ص: 208 ] أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كان عليها المسلمون عند حدوث غزوة
أحد حتى يميز الخبيث من الطيب . وكيف كانوا ؟
كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ، ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله ; ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز ; إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد ، أما الرخاء ، واليسر ، وتكليف ما لا مشقة فيه - كالصلاة ، والصدقة القليلة - فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثة مع التمتع بمزايا الإسلام ، وفوائده ، وربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة - ولاسيما إذا كان داخلا في دين جديد - لما في ذلك من الرياء والسمعة ، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه .
nindex.php?page=treesubj&link=28650_30483_30486الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه ، فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها ، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين ، وفي ذلك فوائد كبيرة : منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة ، ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال ، فإذا عرفه اتقى ذلك ، ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية ; لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها ، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها . هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس ، وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم ; فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد ، والأخلاق ; لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد .
فلما كان هذا اللبس ضارا بالأفراد والجماعات ، ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب ، فتظهر الخفايا ، وتبلى السرائر حتى يرتفع الالتباس ، ويتضح المنهج السوي للناس .
قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم ، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم ، ولكن الله - تعالى - أخبر أن هذا ليس من شأنه ، ولا من سننه ، كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=29692وما كان الله ليطلعكم على الغيب وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب ; لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانا ، فإنه - تعالى - خلق الإنسان نوعا عاملا يحصل جميع رغائبه ، ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة ; ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالشدائد ، وما تتقاضاه من بذل الأموال ، والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق ، والخير لا سبيل الهوى ، كما ابتلى
[ ص: 209 ] المؤمنين في وقعه
أحد بجيش عظيم ، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته ، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة ، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم ، ثم ابتلاهم بظهور العدو عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين ، وزلزال ضعفاء المؤمنين ، وثبات كملة الموقنين .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء أي يصطفيهم فيطلعهم على ما شاء من الغيب ، وهو ما في تبليغه للناس مصلحة ، ومنفعة لهم في الإيمان كصفات الله - تعالى - واليوم الآخر ، وبعض شئونه ، والملائكة ، وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ، ومدحوا عليه في مثل قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الذين يؤمنون بالغيب [ 2 : 1 - 3 ] أقول : والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=26عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=27إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=28ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم [ 72 : 26 - 28 ] وعلى هذا يكون قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158nindex.php?page=treesubj&link=28974_28663_28747فآمنوا بالله ورسوله متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28974_29680وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم أي إن أنتم آمنتم بما جاءوا به من خبر الغيب ، وقرنتم بالإيمان تقوى الله - تعالى - بترك المنهيات ، وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة ، فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره لا يعرف كنهه .
لز التقوى هاهنا مع الإيمان في قرن ، وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم ، وهي أظهر ، وأشهر ، وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها .
وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30175_20419_28689_29692من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله ، واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وزعم بعضهم أن الله - تعالى - أطلعه على
nindex.php?page=treesubj&link=30292علم الساعة قبل وفاته . وكل ذلك من الجرأة على الله - تعالى - والقول عليه بغير علم
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [ 6 : 50 ] هذا ما أمر الله خاتم رسله أن يبلغه خلقه ، وهو ما أمر به من قبله من الرسل ، كما قال حكاية عن
نوح - على نبينا ، وعليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=31ولا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك [ 11 : 31 ] فهم كانوا ينفون أن يكونوا متصرفين في خزائن الله بالإعطاء ، والمنع ، وأن يكونوا يعلمون الغيب ، وأن يكونوا ملائكة ، أي من غير جنس البشر . وأمر الله نبيه أن يستدل على عدم معرفته الغيب بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=188ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون [ 7 : 188 ] ، وقال - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=59وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 : 59 ]
[ ص: 210 ] يقولون : إنه لا يعلمها غيره بعلم ذاتي استقلالي ; ونقول : إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله عن نفسه ، فإن ذلك يفضي إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل ، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس ، ولا مجال فيه لعقول الناس ، وسيأتي لهذا البحث مزيد بيان في سورة الأنعام ، وغيرها إن شاء الله - تعالى - .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28974_30797مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَرَأَ
حَمْزَةُ : " يُمَيِّزَ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّمْيِيزِ ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنْ مَازَ . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَرْسِلًا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعَةِ
أُحُدٍ ، وَمَا بَعْدَهَا ، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ بَيَانُ حَالِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ ، وَضَعْفُهُمْ ، وَبَيَانُ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ ، وَالشُّهَدَاءِ وَمَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ ، وَحَالِ الْكُفَّارِ الْمُهَدِّدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ . وَكَوْنُ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ
أُحُدٍ أَشَدَّ وَقْعَةٍ أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ عَقِبَهَا بِأَلَمِ الْغَلَبِ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ النَّصْرِ فِي "
بَدْرٍ " ، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ ، وَتَبَيَّنَ ضَعْفُ نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِبَيَانِ فَوَائِدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَظِيمَةً . وَمِنْهَا خَتْمُهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةِ ، وَالْمَعْنَى : مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ
[ ص: 208 ] أَنْ يَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ حُدُوثِ غَزْوَةِ
أُحُدٍ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ . وَكَيْفَ كَانُوا ؟
كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَمْتَثِلُونَ كُلَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَمِنْهُ إِرْسَالُ السَّرَايَا الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهَا مَخَاوِفُ كَبِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ فِيهَا الصَّادِقُ بِالْمُنَافِقِ بِلَا تَمْيِيزٍ ; إِذِ التَّمَايُزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشَّدَائِدِ ، أَمَّا الرَّخَاءُ ، وَالْيُسْرُ ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ - كَالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ - فَكَانَ يَقْبَلُهُ الْمُنَافِقُونَ كَالصَّادِقِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ مَعَ التَّمَتُّعِ بِمَزَايَا الْإِسْلَامِ ، وَفَوَائِدِهِ ، وَرُبَّمَا خَدَعَ الشَّيْطَانُ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِتَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ السَّهْلَةِ - وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي دِينٍ جَدِيدٍ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الظَّاهِرِ مَدْعَاةُ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28650_30483_30486الشَّدَائِدُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَوِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَالضَّعِيفِ فِيهِ ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ ضَعِيفَ الْعَزِيمَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ قَوِيِّهَا ، وَتُزِيلُ الِالْتِبَاسَ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ كَبِيرَةٌ : مِنْهَا أَنَّ الصَّادِقَ قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ إِلَى الْمُنَافِقِ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَالِانْخِدَاعِ بِأَدَاءِ الْمُنَافِقِ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلصَّادِقِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ ، فَإِذَا عَرَفَهُ اتَّقَى ذَلِكَ ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْرِفَ الْجَمَاعَةُ وَزْنَ قُوَّتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ ; لِأَنَّهَا بِانْكِشَافِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَهَا تَعْرِفُ أَنَّهُمْ عَلَيْهَا لَا لَهَا ، وَبِانْكِشَافِ حَالِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُرَبِّهِمُ الشِّدَّةُ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا . هَذَا بَعْضُ مَا تَكْشِفُهُ الشِّدَّةُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ ضَرَرِ الِالْتِبَاسِ ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ لَهُمْ حُجُبَ الْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنَ الضَّعْفِ فِي الِاعْتِقَادِ ، وَالْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَكَانُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى تُظْهِرَهُ الشَّدَائِدُ .
فَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّبْسُ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ فِي عِبَادِهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، فَتَظْهَرَ الْخَفَايَا ، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ ، وَيَتَّضِحَ الْمَنْهَجُ السَّوِيُّ لِلنَّاسِ .
قَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ أَقْرَبَ وَسِيلَةٍ لِرَفْعِ اللَّبْسِ هِيَ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْغَيْبِ فَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ ، وَحَقَائِقَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَلَا مَنْ سُنَنِهِ ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=29692وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ إِطْلَاعُ النَّاسِ عَلَى الْغَيْبِ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْرَجَ بِهِ الْإِنْسَانَ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْإِنْسَانَ نَوْعًا عَامِلًا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَغَائِبِهِ ، وَيَدْفَعُ جَمِيعَ مَكَارِهِهِ بِالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَهَدْيُ النُّبُوَّةِ ; وَلِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُزِيلَ هَذَا اللَّبْسَ وَيَمِيزَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ بِالشَّدَائِدِ ، وَمَا تَتَقَاضَاهُ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ ، وَالْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِهِ الَّتِي هِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ ، وَالْخَيْرِ لَا سَبِيلَ الْهَوَى ، كَمَا ابْتَلَى
[ ص: 209 ] الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعِهِ
أُحُدٍ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ ، وَابْتَلَاهُمْ بِاخْتِيَارِ الْخُرُوجِ لِمُحَارَبَتِهِ ، وَابْتَلَى الرُّمَاةَ مِنْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ ، وَإِخْلَاءِ ظُهُورِ قَوْمِهِمْ لِعَدُوِّهِمْ ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمُ بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ حَتَّى ظَهَرَ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ ، وَزِلْزَالُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَثَبَاتُ كَمَلَةِ الْمُوقِنِينَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ يَصْطَفِيهِمْ فَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْغَيْبِ ، وَهُوَ مَا فِي تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَصْلَحَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَصِفَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَبَعْضِ شُئُونِهِ ، وَالْمَلَائِكَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ ، وَمُدِحُوا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [ 2 : 1 - 3 ] أَقُولُ : وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّ مَنْ يَجْتَبِيهِمْ مِنْ رُسُلِهِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِعِبَادِهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=26عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=27إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=28لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [ 72 : 26 - 28 ] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158nindex.php?page=treesubj&link=28974_28663_28747فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=179nindex.php?page=treesubj&link=28974_29680وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ ، وَقَرَنْتُمْ بِالْإِيمَانِ تَقْوَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ ، وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ .
لَزُّ التَّقْوَى هَاهُنَا مَعَ الْإِيمَانِ فِي قَرَنٍ ، وَتَرْتِيبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا مَعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيِ الْكَثِيرَةِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، وَهِيَ أَظْهَرُ ، وَأَشْهَرُ ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا بِالشَّوَاهِدِ كُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا .
وَقَدْ ذَهَبَ وَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30175_20419_28689_29692مَنِ اجْتَبَاهُمُ اللَّهُ مِنْ رُسُلِهِ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كُلَّهُ ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عِلْمَ السَّاعَةِ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي عِلْمَهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَطْلَعَهُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30292عِلْمِ السَّاعَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [ 6 : 50 ] هَذَا مَا أَمَرَ اللَّهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ خَلْقَهُ ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ
نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا ، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=31وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [ 11 : 31 ] فَهُمْ كَانُوا يَنْفُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ بِالْإِعْطَاءِ ، وَالْمَنْعِ ، وَأَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ، وَأَنْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً ، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَشَرِ . وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=188وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 7 : 188 ] ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=59وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [ 6 : 59 ]
[ ص: 210 ] يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ بِعِلْمٍ ذَاتِيٍّ اسْتِقْلَالِيٍّ ; وَنَقُولُ : إِذَا أَجَزْنَا لِأَنْفُسِنَا أَنْ نُقَيِّدَ كُلَّ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّأْوِيلِ ، فَيَجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِ النُّصُوصِ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِعُقُولِ النَّاسِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .