[ ص: 262 ] سورة النساء    ( وهي السورة الرابعة ، وآياتها مائة وسبعون وسبع آيات في العد الشامي ، وست في الكوفي ، وعليه مصاحف الآستانة  ، ومصر  ، وخمس في المكي والمدني الأول والثاني ، وعليه مصحف فلوجل . فالخلاف في فاصلتين ) 
أقول : وهي مدنية كلها . فقد روى  البخاري  في صحيحه ، عن عائشة  أنها قالت : " ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   " ومن المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بعائشة  في المدينة  ، قيل : في السنة الأولى من الهجرة ، وهو الراجح ، وكان ذلك في شوال . أخرج ابن سعد  عنها أنها قالت : " أعرس بي على رأس ثمانية أشهر   " أي من الهجرة . وقيل في السنة الثانية . وقال القرطبي    : كلها مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة  عام الفتح في  عثمان بن طلحة  ، وهي قوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها    [ 4 : 58 ] ، وسيأتي ذلك في محله . وزعم النحاس أنها كلها مكية لما ورد في سبب نزول هذه الآية من قصة مفتاح الكعبة  ، وهو وهم بعيد ، واستدلال باطل ، فإن نزول آية من السورة في مكة  بعد الهجرة لا يقتضي كون السورة كلها مكية ، على أن بعض الروايات في واقعة المفتاح تشعر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية محتجا ، ومبينا للحكم فيها . ففي رواية ابن مردويه  أنه بعد أن أخذ المفتاح من عثمان  ، وفتح الكعبة  ، وأزال منها تمثال إبراهيم  ، والقداح التي كانوا يستقسمون بها ، عاد فأعطاه إياه وقرأ الآية . ولعل من قال : إنها نزلت يومئذ استنبط ذلك من قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها . 
ثم إنه ينظر في التفرقة بين المكي والمدني  من وجهين : 
أحدهما : بيان الواقع ، وتحديد التاريخ بالتفصيل إن أمكن ، ولا فرق في هذا الوجه بين ما نزل بمكة  قبل الهجرة وبعدها . 
ثانيهما : بيان شأن الدين ، وسنة التشريع وأسلوب القرآن قبل الهجرة ، وبعدها ، وبهذا الاعتبار رجح المحققون أن كل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني ، ولا يعنون بهذا أنه نزل في نفس المدينة  بالتفصيل كل آية آية ، وإنما المراد أنه نزل في الزمن الذي كانت المدينة  فيه هي عاصمة الإسلام ، وكان للمسلمين فيه قوة تمنعهم ونظام يجمع شملهم ، وعلى هذا يكون حكم ما نزل بمكة  عام الفتح ، أو عام حجة الوداع كحكم ما نزل في الحديبية   [ ص: 263 ] وبدر  ، وغير ذلك من المواضع التي كان يخرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لغزو أو نسك على عزم العود إلى المدينة    . 
يغلب في السور المكية الإيجاز في العبارة  وإن تكرر ذكرها لما في التكرار من الفوائد ; لأن الذين خوطبوا بها أولا هم أبلغ العرب على الإطلاق ، وإنما يتبارى البلغاء بالإيجاز ، ويغلب في معانيها تقرير كليات الدين ، والاحتجاج لها ، والنضال عنها ، وهي التوحيد ، والبعث ، وعمل الخير ، وترك الشر ، ومعظم الحجاج فيها موجه إلى دحض الشرك ، وإقناع المشركين ، وأما السور المدنية فحجاجها في الغالب مع أهل الكتاب ، والمنافقين ، وفيها تفصيل الأحكام الشخصية ، والمدنية لكثرة المسلمين المحتاجين إليها . فإذا فطنت لهذا تجلى لك أفن رأي من قال : إن هذه السورة مكية ، ومن قال أيضا : إن أوائلها نزلت في مكة  ، فلا شيء من أحكامها كان مما يحتاج إليه في مكة قبل الهجرة . 
افتتحت بعد الأمر بالتقوى بأحكام اليتامى والبيوت ، والأموال ، ومنها الميراث ، ومحرمات النكاح ، وحقوق الرجال على النساء ، والنساء على الرجال ، ثم ذكر فيها كثير من أحكام القتال . وجاء فيها بين أحكام البيوت ، وأحكام القتال حجاج لأهل الكتاب ، وفي أثناء أحكام القتال وآدابه شيء عن المنافقين ، ثم كانت أواخرها في محاجة أهل الكتاب إلا ثلاث آيات هن خاتمتها ، وكل ذلك من شئون الإسلام بعد الهجرة . 
ومن وجوه الاتصال بينها وبين ما قبلها : أن هذه قد افتتحت بمثل ما اختتمت به تلك من الأمر بالتقوى ، وهو ما يسمى في البديع تشابه الأطراف . وفي روح المعاني : أن هذا آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور . ( ومنها ) محاجة أهل الكتاب اليهود  والنصارى  جميعا في كل منهما . ( ومنها ) ذكر شيء عن المنافقين في كل منهما ، وكونه في سياق الكلام عن القتال . ( ومنها ) ذكر أحكام القتال في كل منهما . ( ومنها ) أن في هذه شيئا يتعلق بغزوة أحد  التي فصلت وقائعها وحكمها في آل عمران ، وهو قوله - تعالى - في هذه السورة : فما لكم في المنافقين فئتين    [ 4 : 88 ] إلخ . كما سيأتي في موضعه . وكذا ذكر شيء يتعلق بغزوة ( حمراء الأسد ) التي كانت بعد ( أحد ) وسبق ذكرها في آل عمران - كما تقدم - وذلك قوله - تعالى - في هذه السورة : ولا تهنوا في ابتغاء القوم    [ 4 : 104 ] وسيأتي . وقد ذكر هذا الوجه ، وما قبله في روح المعاني ، وأما الوجوه الأخرى ، وهي ما تتعلق المناسبة فيها بمعظم الآيات فلم أرها في كتاب ، ولا سمعتها من أحد . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					