بعد ما بين - تعالى - حال من ضمن قبول توبتهم قال مبينا حال من قطع بأنه ليس لهم توبة مقبولة عنده :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18nindex.php?page=treesubj&link=28975_19727وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال الأستاذ الإمام : قال - تعالى - في الآية السابقة :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إنما التوبة على الله ولم يقل هنا " ، وليست التوبة على الله " إلخ . وذلك أنه ليس المراد نفي القطع بقبول توبتهم ، وإنما المراد نفي وقوع التوبة الصحيحة منهم ، وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم ، ولو نفى كونها مما أوجبه - تعالى - على نفسه لكان المعنى أنها غير واجبة لهم ، ولا مقطوع بقبولها منهم ، ولكنهم قد ينالونها .
وأقول : إن وجه النفي هو أن هؤلاء الذين نفى ثبوت التوبة لهم ليسوا ممن اقتضت السنن الإلهية في خلق الإنسان ، وتأثير أعماله في صفات نفسه ، وملكاتها ، ثم ترتب أعماله على أخلاقه وملكاته ; بأن يكونوا ممن يرجع عن السيئات بعد الاستمرار عليها ، وينخلع عنها ، ويطهر قلبه ، ويزكي نفسه من أدرانها فيكون أهلا لرحمة الله أن تعطف عليه ; ومحلا لاستجلاب نعمه فيعود ما نفر منها بالمعاصي إليه ، بل مضت سنة الله - تعالى - في أمثالهم أن تحيط بهم خطاياهم وسيئاتهم فلا تدع للطاعات والحسنات مكانا من نفوسهم فيصرون عليها إلى أن يحضر أحدهم الموت ، وييأس من الحياة التي تمتع فيها بما كان يتمتع ، فعند ذلك يقول : إني تبت وما هو من التائبين ، بل من المدعين الكاذبين ، كما يأتي قريبا .
قال الأستاذ : وقال هناك :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17يعملون السوء وهاهنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18يعملون السيئات والجمع هاهنا يعم جميع أفراد النوع الواحد من المعاصي التي تكون بالإصرار والتكرار ، فالمصر على ذنب واحد من الذين يعملون السيئات حتما ، ويعم جميع الأنواع المختلفة منها ، وأقول : إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها ، أو جنسها ، والشر داعية الشر ، كما أن الخير داعية الخير .
قال : وقال هناك :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17ثم يتوبون فأسند التوبة إليهم ، وقال هاهنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18قال إني تبت الآن فبين أن واحد هؤلاء يدعي التوبة عند العلم بالعجز عن الذنب ، أي أن قلبه لم ينخلع من الذنب ، ونفسه لم ترغب عنه فيكون تائبا . وإنما مثله كمثل رجل كان يعيث في أرض آخر فسادا فظفر به هذا ووضع السيف على عنقه وأراد أن يفصل رأسه عن بدنه فاستغاث وقال : إنه لا يعود إلى ذلك الإفساد ، ولكن نفسه لم تنفر منه ، ولم تستقبحه لأنه فساد ، فهي إذا زال الخوف تعود
[ ص: 368 ] إلى الدعوة إليه ، ولا تلقى من صاحبها إلا الطاعة والانقياد ; ولهذا قيد القول بكلمة الآن والآنية تنافي الاستمرار الذي دل عليه المضارع " يتوبون " هناك ، ومن هنا يمكننا أن نميز الحق من بين تلك الأقوال التي رووها في حضور الموت ، كقولهم : إن المراد به حال الحشرجة ، أو الغرغرة ، أو ذهاب التمييز ، والإدراك ، ومن كان في مثل هذه الأحوال لا يصدر عنه قول . والمختار أن المراد بحضور الموت هو تحقق وقوعه ، واليأس من الحياة .
و " حتى " ابتدائية ، وما بعدها غاية لما قبلها ، أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور موتهم وصدور ذلك القول منهم ، وأقول : وقدر بعض المفسرين قيد " على الله " فقال : المعنى : وليست التوبة أي قبولها حتما لهؤلاء ، ونفي التحقيق غير تحقق النفي ، فيكون أمر من ذكر في هذه الآية مبهما يفوض الأمر فيه إلى الله - تعالى - . وما اختاره شيخنا هو الصحيح المتبادر .
ثم قال : إنهم يروون هنا أحاديث في قبول
nindex.php?page=treesubj&link=19722توبة العبد ما لم يغرغر ، أو تبلغ روحه الحلقوم ، وإني أوافقهم على ذلك إذا حصلت التوبة بالفعل بأن أدرك المذنب قبح ما كان عمله من السيئات ، وكرهه وندم على مزاولته ، وزال ميله إليه من قلبه بحيث لو عاش لما عاد إليه ، أي مع الروية ، والتعمد كما كان ، وما كل تصور لقبح الذنب ، أو تصديق بقبحه وضرره يكون سببا لتركه ، فإن للتصورات ، والتصديقات مراتب لا يعتد منها في باب العلم النافع إلا بالقوي الذي يترتب عليه العمل ; لرجحانه على مقابله . وضرب مثلا للتصديق المرجوح : تصديقه ما قاله الأطباء له من أن صوته يضره الحامض وقد أيدت التجربة ذلك ، وهو مع ذلك لا يعده علما يقينيا تاما لأنه مغلوب بعلم وجداني أقوى منه ، وهو ما ألفت النفس من إدراك لذة الحامض وطلب الطبيعة له ، ولو كان علما تاما لما تناول الحامض في بعض الأوقات ; فإن العلم الحقيقي هو الذي يحكم على الإرادة ويصرفها في العمل فلا تجد عن طاعته مصرفا .
قال : وهذا المعنى هو الذي أدركه
الصوفية إذ قالوا : إن الاعتقاد أو الإدراك لا يكون علما صحيحا نافعا يثيب الله عليه إلا إذا صار ذوقا ، ويعنون بصيرورته ذوقا أن يصير وجدانا للنفس يمتزج بها ويكون هو الحاكم عليها . فليت شعري هل يحدث للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة مثل هذا الوجدان لقبحها ، وكراهتها قبل الموت من حيث إنها مدنسة للنفس مبعدة لها عن منازل الأبرار ، أم الذي يحصل له هو إدراك العجز عنها ، واليأس منها ، وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها بالموت الذي يكون وراءه نزول الوعيد به ؟ وهل يسمى هذا الأخير توبة من الذنب ، ورجوعا إلى ما يرضاه الرب ؟ الله أعلم بالسرائر ، وإنما يجازي الناس بحسب ما يعلم ، وعلينا أن نأخذ بالأحوط والأسلم ، هذا معنى ما قاله الأستاذ - رحمه الله - في درسين ، وهو مع تفسير الآية الأولى لا يخلو من تكرار مفيد على تصرفنا فيه بالتقديم ، والتأخير ، والحذف ، والزيادة التي تجلي المعنى ، ولا تغيره ، والوصول إلى
[ ص: 369 ] تحقيق الحق في أمثال هذه المسائل المهمة لا يكون إلا بالتكرار ، والبسط ، والإيضاح . وسيأتي ذكر للتوبة وشروطها في آيات أخرى من سور أخرى ، وتقدم ذكرها من قبل .
قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18ولا الذين يموتون وهم كفار أي لا توبة لأولئك ولا هؤلاء - وقد استشكلوا ذكر نفي توبة هؤلاء مع كونه بديهيا لا سيما بعد تقرير ما سبقه ، فإنه إذا كان المؤمن ليس له توبة عند حضور الموت ، فالأولى ألا يكون للكافر عند الموت ، فكيف يتصور أن يكون له توبة بعده ؟ وقد يخطر في البال أن المراد نفع ما يكون من توبتهم في الآخرة ، وهي ما حكاه - تعالى - عنهم في آيات كثيرة :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون [ 23 : 107 ] ولا أتذكر الآن أن أحدا من المفسرين قال بذلك ، بل قال بعضهم : إن المراد من نفي توبة هؤلاء هو المبالغة في عدم قبول توبة من قبلهم ، والإيذان بأنها كالعدم ، وأن ذويها في مرتبة الذين يموتون وهم كفار ، بل قال بعضهم : إن في تكرير حرف النفي إشعارا بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر ، وجوز بعضهم أن يراد بالفريقين الكفار ، وبعضهم أن يراد بهما الفساق على أن يكون التعبير عنهم بالكفار من باب التغليظ .
واختار شيخنا أن المراد بالكفر هنا : ما هو دون الشرك ، وعدم تصديق دعوة النبوة ، وهو استعمال معروف في القرآن ، وصرح به بعض العلماء الأعلام ، وقالوا : إنه يوجد كفر دون كفر ، وبه فسر
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبو حامد الغزالي الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فقد بين أن ما يجب الإيمان به قسمان : قسم يجب أن يعلم لذاته ولا يتعلق به عمل
nindex.php?page=treesubj&link=28653كالإيمان بوجود الله ، وبوحدانيته وسائر ما وصف به نفسه وبالوحي وصدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ، وقسم يجب أن يعلم ليعمل به كالإيمان بالفرائض ، وكون أدائها من أسباب رضوان الله ومثوبته ، وبتحريم المحرمات ، وكون اقترافها من أسباب سخطه - تعالى - وعقابه ، أي فوق ما في الفرائض من إصلاح النفس ، وحال الاجتماع ، وما في المحرمات من الضرر في الأفراد ، والجمعيات ، ويسمي
أبو حامد القسم الأول علم المكاشفة ، والثاني علم المعاملة ، ويقول : إن من يعمل السيئة المحرمة لا يكون مؤمنا بتحريمها ، وصدق الرسول فيما أخبر به من كونها موجبة لسخط الله - تعالى - وعذابه ، وهو - أي
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي - لا ينفي إيمان هذا من حيث إنه قد فاتته ثمرته ، وهي العمل به فقط ، بل يقول : إن الإيمان يشترط فيه اليقين ، ومن أيقن بأن شيئا من الأشياء يضره فهو لا يأتيه كما هو معلوم من غرائز البشر ، وارتباط أعمالهم بإرادتهم ، وإرادتهم بعلومهم المتعلقة بالنفع والضرر ، بل علم من عادة الإنسان وطبعه أن يحتاط في دفع الضرر ، حتى إنه ليعمل فيه بقول من لا ثقة بقوله عنده لعدم عدالته . وضرب لذلك
أبو حامد مثلا فقال ما معناه :
[ ص: 370 ] إذا كنت جائعا ولم تجد إلا طعاما أخبرك رجل يهودي لا تثق بروايته في أخباره أنه مسموم ، أفلا تبني على الاحتياط وتترك الأكل من ذلك الطعام ؟ بل إنك لتقول : إنه يحتمل أن يكون صادقا فلا أعرض نفسي للهلاك بهذا الطعام ! وقد أخبرك النبي المعصوم الصادق الأمين بأن هذه الذنوب سموم مهلكة للأرواح مفضية إلى سخط الله ، وعذابه ، فكيف تدعي الإيمان به ، والجزم بصدقه ، وأنت تجعل خبره دون خبر ذلك اليهودي الذي تجزم بعدم عدالته ! ؟ وفي هذا المقام يذكر حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن إلخ . أي إن هذا الإيمان الخاص لا يكون ملابسا التلبس حين التلبس بالمعصية ، فإذا عاد إليها بعد العمل تألمت فبعثها الألم على التوبة ، كما حققه في شرح حقيقة التوبة ، وكونها مركبة من علم وحال وعمل : العلم يوجب الحال ، والحال توجب العمل ، أي إن العلم بحرمة الذنب ، والوعيد عليه يحدث في النفس حالا مؤثرة تبعث على العمل بترك المحرم ، وكذلك العلم بوجوب الواجب إلى آخر ما حققه ، وبينه بالتفصيل فيراجع في كتاب التوبة من أول الجزء الرابع من الإحياء .
قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما أي أولئك الفريقان البعيدان عن سنة الفطرة ، وهداية الشريعة ، المستعبدان لسلطان الشهوة وشيطان الرذيلة ، قد أعتدنا ، وهيأنا لهم عذابا مؤلما في دار الجزاء بما قدموا لأنفسهم في دار الأعمال ، فإن إصرارهم على السيئات إلى أن وافاهم الممات قد دسى نفوسهم ، وأفسد قلوبهم ، فصاروا من التحوت ، تهبط خطاياهم بأرواحهم إلى هاوية الهوان . وتعجز عن العروج إلى فراديس الجنان ، ومعاهد الكرامة والرضوان .
بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18nindex.php?page=treesubj&link=28975_19727وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا " ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ " إلخ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا .
وَأَقُولُ : إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ ، وَمَلَكَاتِهَا ، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ ; بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا ، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا ، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ ; وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا .
قَالَ الْأُسْتَاذُ : وَقَالَ هُنَاكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا ، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا ، وَأَقُولُ : إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا ، أَوْ جِنْسِهَا ، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ .
قَالَ : وَقَالَ هُنَاكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ هَاهُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا . وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ : إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ
[ ص: 368 ] إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ; وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ " يَتُوبُونَ " هُنَاكَ ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ ، كَقَوْلِهِمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ ، وَالْإِدْرَاكِ ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ . وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ .
وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ ، وَأَقُولُ : وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللَّهِ " فَقَالَ : الْمَعْنَى : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - . وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ .
ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ
nindex.php?page=treesubj&link=19722تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ . وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ : تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا .
قَالَ : وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ
الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا : إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا ، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا . فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا ، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا ، وَالْيَأْسِ مِنْهَا ، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ ؟ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دَرْسَيْنِ ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ ، وَالتَّأْخِيرِ ، وَالْحَذْفِ ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى ، وَلَا تُغَيِّرُهُ ، وَالْوُصُولُ إِلَى
[ ص: 369 ] تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ ، وَالْبَسْطِ ، وَالْإِيضَاحِ . وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ .
قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [ 23 : 107 ] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ .
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا : مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ، وَقَالُوا : إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ ، وَبِهِ فَسَّرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ : قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=28653كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَمَثُوبَتِهِ ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ ، وَالْجَمْعِيَّاتِ ، وَيُسَمِّي
أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ ، وَيَقُولُ : إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ ، وَهُوَ - أَيِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ ، بَلْ يَقُولُ : إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ . وَضَرَبَ لِذَلِكَ
أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ :
[ ص: 370 ] إِذَا كُنْتَ جَائِعًا وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا طَعَامًا أَخْبَرَكَ رَجُلٌ يَهُودِيُّ لَا تَثِقُ بِرِوَايَتِهِ فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ ، أَفَلَا تَبْنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَتْرُكُ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ ؟ بَلْ إِنَّكَ لَتَقُولُ : إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِلْهَلَاكِ بِهَذَا الطَّعَامِ ! وَقَدْ أَخْبَرَكَ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ لِلْأَرْوَاحِ مُفْضِيَةٌ إِلَى سُخْطِ اللَّهِ ، وَعَذَابِهِ ، فَكَيْفَ تَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ ، وَالْجَزْمَ بِصِدْقِهِ ، وَأَنْتَ تَجْعَلُ خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ ! ؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ . أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ : الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ .
قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْفَرِيقَانِ الْبَعِيدَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ ، وَهِدَايَةِ الشَّرِيعَةِ ، الْمُسْتَعْبَدَانِ لِسُلْطَانِ الشَّهْوَةِ وَشَيْطَانِ الرَّذِيلَةِ ، قَدْ أَعْتَدْنَا ، وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الْأَعْمَالِ ، فَإِنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْمَمَاتُ قَدْ دَسَّى نُفُوسَهُمْ ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ ، فَصَارُوا مِنَ التُّحُوتِ ، تَهْبِطُ خَطَايَاهُمْ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَى هَاوِيَةِ الْهَوَانِ . وَتَعْجَزُ عَنِ الْعُرُوجِ إِلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ ، وَمَعَاهِدِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ .