[ ص: 24 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26nindex.php?page=treesubj&link=28975يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها ، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح ، قال الأستاذ الإمام : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يريد الله ليبين لكم إلخ ، استئناف بياني كأن قائلا يقول : ما هي حكمة هذه الأحكام وفائدتها لنا ؟ وهل كلف الله تعالى أمم الأنبياء السابقين إياها أو مثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة ، وهل كان ما أمرنا به ونهانا عنه تشديدا علينا ، أم تخفيفا عنا ؟ فجاءت الآيات مبينة أجوبة هذه الأسئلة التي من شأنها أن تخطر بالبال بعد العلم بتلك الأحكام ، وقوله : ليبين معناه أن يبين ، فاللام ناصبة بمعنى أن المصدرية ـ كما قال الكوفيون ـ ومثله
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ( 61 : 8 ) ، أقول : ويجعل
البصريون متعلق الإرادة محذوفا ، واللام للتعليل أو العاقبة ، أي : يريد الله ذلك التحريم والتحليل ; لأجل أن يبين لكم به ما فيه مصلحتكم وقوام فطرتكم ، ولهم في هذه اللام أقوال أخرى .
وقد حذف مفعول " ليبين " لتتوجه العقول السليمة إلى استخراجه من ثنايا الفطرة القويمة ، وقد أشار الأستاذ الإمام إلى بعض الحكم في تحريم المحرمات عقب سردها ، ورأينا أن نؤخر ذكرها فنجعله في هذا الموضع ؛ ليكون بيانا لما وجهت إليه النفوس هنا بحذف المفعول ، وإنما كتبنا عنه في مذكرتنا بيان عاطفة الأب السائقة إلى تربية ولده وهي تذكر بغيرها من مراتب صلات القرابة ، وإننا نذكر ما يتعلق بهذا المقام بالإيجاز ، ومحل الإسهاب فيه كتب الأخلاق .
إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بها ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع ، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر ، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة ، فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الأولاد والوالدين من العاطفة والأريحية ، فمن اكتنه السر في عطف الأب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه إلى العناية بتربيته إلى أن يكون رجلا مثله ، فهو ينظر إليه كنظره إلى بعض أعضائه ،
[ ص: 25 ] ويعتمد عليه في مستقبل أيامه ، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده وممد حياته ، وقوام تأديبه وعنوان شرفه ، وبهذا الشعور يحترم الابن أباه ، وبتلك الرحمة والأريحية يعطف الأب على ابنه ويساعده .
هذا ما قاله الأستاذ ، ولا يخفى على إنسان أن عاطفة الأم الوالدية أقوى من عاطفة الأب ، ورحمتها أشد من رحمته ، وحنانها أرسخ من حنانه ; لأنها أرق قلبا وأدق شعورا ، وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها ، ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها ، فيكون له مع كل مصة من ثديها عاطفة جديدة يستلها من قلبها ، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه ، ثم إنه يحب أباه ولكن دون حبه لأمه ، وإن كان يحترمه أشد مما يحترمها ، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب استمتاع الشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة ؟ بلى ; ولأجل هذا كان تحريم
nindex.php?page=treesubj&link=10972نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية ويليه تحريم البنات ، ولولا ما عهد في الإنسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والإفساد فيها ، لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات ; لأن فطرته تشعر بأن النزوع إلى ذلك من قبيل المستحيلات .
وأما الإخوة والأخوات فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والأولاد ، من حيث إنهم كأعضاء الجسم الواحد ; فإن الأخ والأخت من أصل واحد يستويان في النسبة إليه من غير تفاوت بينهما ، ثم إنهما ينشآن في حجر واحد على طريقة واحدة في الغالب ، وعاطفة الأخوة بينهما متكافئة ليست أقوى في أحدهما منها في الآخر كقوة عاطفة الأمومة والأبوة على عاطفة البنوة ; فلهذه الأسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس آخر إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة ، وعواطف الود والثقة المتبادلة ، ويحكى أن امرأة شفعت عند
الحجاج في زوجها وابنها وأخيها وكان يريد قتلهم فشفعها في واحد مبهم منهم ، وأمرها أن تختار من يبقى فاختارت أخاها فسألها عن سبب ذلك فقالت : إن الأخ لا عوض عنه ، وقد مات الوالدان ، وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما ، فأعجبه هذا الجواب ، وعفا عن الثلاثة ، وقال : لو اختارت الزوج لما أبقيت لها أحدا ، وجملة القول أن صلة الأخوة صلة فطرية قوية ، وأن الإخوة والأخوات لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض ; لأن عاطفة الأخوة تكون هي المسئولة على النفس ، بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة ، فقضت حكمة الشريعة بتحريم
nindex.php?page=treesubj&link=10974نكاح الأخت حتى لا يكون لمعتلي الفطرة منفذ لاستبدال داعية الشهوة بعاطفة الأخوة .
وأما العمات والخالات فهن من طينة الأب والأم ، وفي الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918642عم الرجل صنو أبيه " ، أي : هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة ، وتقدم هذا في تفسير
[ ص: 26 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=133أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ( 2 : 133 ) ، فعدوا
إسماعيل من آبائه ؛ لأنه أخ
لإسحاق فكأنه هو ولهذا المعنى الذي كانت به صلة العمومة من صلة الأبوة ، وصلة الخئولة من صلة الأمومة ، قالوا : إن
nindex.php?page=treesubj&link=10972تحريم الجدات مندرج في تحريم الأمهات وداخل فيه ، فكان من محاسن دين الفطرة المحافظة على عاطفة صلة العمومة والخئولة ، والتراحم والتعاون بها وألا تنزوي الشهوة عليها وذلك بتحريم
nindex.php?page=treesubj&link=10975نكاح العمات والخالات .
وأما بنات الأخ وبنات الأخت فهما من الإنسان بمنزلة بناته من حيث إن أخاه وأخته كنفسه ، وصاحب الفطرة السليمة يجد لها هذه العاطفة من نفسه ، وكذا صاحب الفطرة السقيمة إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقمها ، نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم ، وأما الفرق بين العمات والخالات ، وبين بنات الإخوة والأخوات فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان ، والحب لأولئك حب تكريم واحترام ، فهما من حيث البعد عن مواقع الشهوة متكافئان ، وإنما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات ; لأن الإدلاء بهما من الآباء والأمهات ، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الإخوة والأخوات .
هذه هي أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس بها ويتعاطفون ، ويتوادون ويتعاونون بما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان ، والعطف والاحترام ، فحرم الله فيها النكاح لأجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها إلى من ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبية بينهم كالغرباء والأجانب ، والطبقات البعيدة من سلالة الأقارب ، كأولاد الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب ، فتتسع دائرة الرحمة بين الناس ، فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة .
ثم أقول : إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا ، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل ، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى فيه إلى أن ينقطع ; ولذلك سببان :
السبب الأول : وهو الذي أشار إليه الفقهاء ، أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين وهي الشهوة ، وقد قالوا : إنها تكون ضعيفة بين الأقارب ، وجعلوا ذلك علة لكراهة تزوج بنات العم وبنات العمة إلخ ، وسبب ذلك أن هذه الشهوة شعور
[ ص: 27 ] في النفس يزاحمه شعور عواطف القرابة المضادة له ، فإما أن يزيله وإما أن يزلزله ويضعفه كما علم مما بيناه آنفا .
والسبب الثاني : يعرفه الأطباء ، وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين ، وهو أن الأرض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى إلى أن ينقطع لقلة المواد التي هي قوام غذائه ، وكثرة المواد الأخرى التي لا يتغذى منها ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له ، ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الأرض نوع آخر من الحب لنما كل منهما ، بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد ، فإذا زرعوا حنطة في أرض وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الأرض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة ، وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الأرض نفسها يكون أنمى وأزكى ، كذلك النساء حرث كالأرض يزرع فيهن الولد ، وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه ، فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب ، فإن الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسادهما ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية ويباينهما في شيء من ذلك ، فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لأجل أن ترتقي السلائل البشرية ، ويتقارب الناس بعضهم من بعض ، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض ، والتزوج من الأقربين ينافي ذلك فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا ، مناف للفطرة مخل بالروابط الاجتماعية عائق لارتقاء البشر .
وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في الإحياء أن من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة ألا تكون من القرابة القريبة ، قال : فإن الولد يخلق ضاويا أي نحيفا ، وأورد في ذلك حديثا لا يصح ولكن روى
nindex.php?page=showalam&ids=12352إبراهيم الحربي في غريب الحديث أن
عمر قال
لآل السائب : " اغتربوا لا تضووا " ، أي : تزوجوا الغرائب لئلا تجيء أولادكم نحافا ضعافا ، وعلل
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي ذلك بقوله : إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر أو اللمس ، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد ، فأما المعهود الذي دام النظر إليه فإنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به ولا تنبعث به الشهوة اهـ ، وتعليله لا ينطبق على كل صورة ، والعمدة ما قلناه .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=12968حكمة التحريم بالرضاعة فقد بيناها في تفسير
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23وأخواتكم من الرضاعة ( 4 : 23 ) ، ويزيده ما قلناه آنفا في حكمة محرمات النسب تبيانا فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة القرابة بإلحاق الرضاعة بها ، وقد ذكرنا أن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع ، وفاتنا أن نذكر هناك أنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته .
وأشرنا أيضا إلى
nindex.php?page=treesubj&link=10977حكمة تحريم محرمات المصاهرة بما ذكرناه في حكمة تحريم الربيبة
[ ص: 28 ] وهي بنت الزوجة ، وأمها أولى بالتحريم ; لأن زوجة الرجل شقيقة روحه بل مقومة ماهيته الإنسانية ومتممتها ، فينبغي أن تكون أمها بمنزلة أمه في الاحترام ، ويقبح جدا أن تكون ضرة لها ; فإن لحمة المصاهرة كلحمة النسب ، فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها وتجددت في نفسه عاطفة مودة جديدة لهم ، فهل يجوز أن يكون سببا للتغاير والضرار بين الأم وابنتها ؟ كلا ، إن ذلك ينافي حكمة المصاهرة والقرابة ، ويكون سبب فساد العشيرة ، فالموافق للفطرة الذي تقوم به المصلحة هو أن تكون أم الزوجة كأم الزوج ، وبنتها التي في حجره كابنته من صلبه ، وكذا ينبغي أن تكون زوج ابنه بمنزلة ابنه ، يوجه إليها العاطفة التي يجدها لابنته ، كما ينزل الابن امرأة أبيه منزلة أمه ، وإذا كان من رحمة الله وحكمته أن حرم
nindex.php?page=treesubj&link=12993_10988الجمع بين الأختين وما في معناهما لتكون المصاهرة لحمة مودة ، غير مشوبة بسبب من أسباب الضرار والنفرة ، فكيف يعقل أن يبيح نكاح من هي أقرب إلى الزوجة كأمها أو ابنتها ، أو زوجة الوالد للولد ، وزوجة الولد للوالد ؟ وقد بين لنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=10799حكمة الزواج هي سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخر ، والمودة والرحمة بينهما ، وبين من يلتحم معهما بلحمة النسب ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ( 30 : 21 ) ، فقيد سكون النفس الخاص بالزوجية ولم يقيد المودة والرحمة ; لأنها تكون بين الزوجين ومن يلتحم معهما بلحمة النسب وتزداد وتقوى بالولد ، كما بينا ذلك بالإسهاب في مقالات الحياة الزوجية التي نشرناها في المجلد الثامن من المنار .
فهذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يريد الله ليبين لكم من حيث إنه لم يذكر معمول ليبين لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة إرشادنا إلى كون ديننا دين الفطرة بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 : 30 ) ، فقد جاءت هذه الآيات بعد آية الزوجية بثماني آيات ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وفي الأرض آيات للموقنين nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 51 : 20 ، 21 ) ، وقد هدانا بذلك جلت حكمته إلى استقلال في طلب العلم والحكمة ، وتزكية النفس بالأدب والفضيلة ، ولا غرو فالقرآن هدى للمتقين ، لا قوانين وضعية للمتكلفين ، ولا رسوم عرفية للجامدين .
بعد كتابة ما تقدم ذهبت إلى إحدى دور الكتب في (
القسطنطينية ) حيث أنا فراجعت كتاب حجة الله البالغة للشيخ
أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي ، فإذا هو يقول في حكم محرمات النكاح : والأصل في التحريم أمور :
[ ص: 29 ] " منها جريان العادة بالاصطحاب والارتباط ، وعدم إمكان لزوم الستر فيما بينهم ، وارتباط الحاجات من الجانبين على الوجه الطبيعي دون الصناعي ، فإنه لو لم تجر السنة بقطع الطمع عنهن والإعراض عن الرغبة فيهن لهاجت مفاسد لا تحصى ، وأنت ترى الرجل يقع بصره على محاسن امرأة أجنبية فيتوله بها ، ويقتحم في المهالك لأجلها ، فما ظنك فيمن يخلو معها وينظر إلى محاسنها ليلا ونهارا ، وأيضا لو فتح باب الرغبة فيهن ولم يسد ، ولم تقم اللائمة عليهم فيه أفضى ذلك إلى ضرر عظيم عليهن ، فإنه سبب عضلهم إياهن عمن يرغبن فيه لأنفسهم ، فإنه بيدهم أمرهن وإليهم إنكاحهن ، وألا يكون لهم إن نكحوهن من يطالبهم عنهن بحقوق الزوجية مع شدة احتياجهن إلى من يخاصم عنهن ، ونظر لذلك بمسألة عضلهم لليتامى الغنيات كما تقدم في أوائل السورة قال :
" ومنها الرضاعة ، فإن التي أرضعت تشبه الأم من حيث إنها سبب اجتماع أمشاج بنيته وقيام هيكله ، غير أن الأم جمعت خلقته في بطنها وهذه درت عليه سد رمقه من أول نشأته ، فهي أم بعد الأم وأولادها إخوة بعد الإخوة ، وقد قاست في حضانته ما قاست ، وقد ثبت في ذمته من حقوقها ما ثبت ، وقد رأت منه في صغره ما رأت ، فيكون تملكها والوثوب عليها مما تمجه الفطرة السليمة ، وكم من بهيمة عجماء لا تلتفت إلى أمها أو إلى مرضعتها هذه اللفتة ، فما ظنك بالرجال !
" وأيضا فإن العرب كانوا يسترضعون أولادهم في حي من الأحياء فيشب فيهم الولد ويخالطهم كمخالطة المحارم ، ويكون عندهم للرضاعة لحمة كلحمة النسب ، ثم ذكر الحديث في هذا المعنى والرضاع المحرم وكون الأصل في مقداره عشر رضعات ، والخمس للاحتياط " .
قال : " ومنها الاحتراز عن قطع الرحم بين الأقارب ، فإن الضرتين تتحاسدان وينجر البغض إلى أقرب الناس منهما ، والحسد بين الأقارب أخنع وأشنع ، وقد كره جماعات من السلف ابنتي العم والخال لذلك ، فما بالك بامرأتين أيهما فرض ذكرا حرمت عليه الأخرى كالأختين والمرأة وعمتها ، أو خالتها ، ثم ذكر ما ورد في الجمع :
قال : " ومنها المصاهرة فإنه لو جرت السنة بين الناس أن يكون للأم رغبة في زوج ابنتها ، وللرجال في حلائل الأبناء وبنات نسائهم ، لأفضى إلى السعي في فك ذلك الربط ، أو قتل من يشح به ، وإن أنت تسمعت إلى قصص قدماء الفارسيين ، واستقرأت حال أهل زمانك من الذين لم يتقيدوا بهذه السنة الراشدة ، وجدت أمورا عظاما ومهالك ومظالم لا تحصى ، وأيضا فإن الاصطحاب في هذه القرابة لازم ، والستر متعذر ،
[ ص: 30 ] والتحاسد شنيع ، والحاجات من الجانبين متنازعة ، فكأن أمرها بمنزلة الأمهات والبنات أو بمنزلة الأختين " .
قال : " ومنها العدد الذي يمكن الإحسان إليه في العشرة الزوجية " ، ولم يأت بشيء جديد في التعدد إلا قوله في بيان حكمة الأربع : " ذلك أن الأربع عدد يمكن لصاحبه أن يرجع إلى كل واحدة بعد ثلاث ليال ، وما دون ليلة لا يفيد فائدة القسم ، ولا يقال في ذلك : بات عندها ، وثلاث أول حد الكثرة ، وما فوقها زيادة الكثرة ، اهـ ، وقد وفينا هذا المقام حقه في تفسير الآية التي تبيح التعدد من جـ 4 ص 282 وما بعدها ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
قال : " ومنها اختلاف الدين وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=221ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ( 2 : 221 ) ، وذكر أن ذلك مفسدة للدين وهي تخف في الكتابية فرخص فيها ، وتقدم إيضاح ذلك في الجزء الثاني ، وقد نقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن بعض مفسري السلف أن المشركين والمشركات المحرم على المؤمنين التناكح معهم هم المشركون والمشركات من العرب ، وقد كان من حكمة الإسلام أن يكون عرب
الجزيرة كلهم مسلمين فشدد في معاملتهم ما لم يشدد في معاملة غيرهم كما بينا ذلك في المنار .
قال : " ومنها كون المرأة أمة لآخر ، فإنه لا يمكن تحصين فرجها بالنسبة إلى سيدها ، ولا اختصاصه بها بالنسبة إليه إلا من جهة التفويض إلى دينه وأمانته ، ولا جائز أن يصد سيدها عن استخدامها والتخلي بها فإن ذلك ترجيح أضعف الملكين على أقواهما ، فإن هنالك ملكين : ملك الرقبة وملك البضع ، والأول هو الأقوى المشتمل على الآخر المستتبع له ، والثاني هو الضعيف المندرج ، وفي اقتضاب الأدنى للأعلى قلب الموضوع ، وعدم الاختصاص بها ، وعدم إمكان ذب الطامع فيها هو أصل الزنا ، وقد اعتبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الأصل في تحريم
nindex.php?page=treesubj&link=10803الأنكحة التي كان الجاهلية يتعاملونها كالاستبضاع كما بينته
عائشة رضي الله عنها ، فإذا كانت فتاة مؤمنة بالله محصنة فرجها ، واشتدت الحاجة إلى نكاحها لمخافة العنت ، وعدم طول الحرة ، خف الفساد وكانت الضرورة ، والضرورات تبيح المحظورات ، انتهى .
ثم ذكر كون المرأة مشغولة بنكاح مسلم أو كافر ، وقال في حكمته : " فإن أصل الزنا هو الازدحام على الموطوءة من غير اختصاص أحدهما ، وغير قطع طمع الآخر فيها " .
أما قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26ويهديكم سنن الذين من قبلكم فمعناه أنه يريد أيضا بما شرعه لكم من الأحكام الموافقة لمصالحكم ومنافعكم أن يهديكم سنن الذين أنعم عليهم من قبلكم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، أي : طرقهم في العمل بمقتضى الفطرة السليمة ، وهداية الدين والشريعة ، كل بحسب حال الاجتماع في زمانه ، كما قال :
[ ص: 31 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا 5 : 48 ] ، وإنما كان
nindex.php?page=treesubj&link=28639_31789دين جميع الأنبياء واحدا في التوحيد ، وروح العبادة ، وتزكية النفس بالأعمال التي تقوم الملكات وتهذب الأخلاق .
ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26ويتوب عليكم ، أي : ويريد بتلك الأحكام أن يجعلكم بالعمل بها تائبين مما سلف في زمن الجاهلية وأول الإسلام ، إذ كنتم منحرفين عن سنة الفطرة تنكحون ما نكح آباؤكم ، وتقطعون أرحامكم ، ولا تراعون ما في الزوجية من تجديد قرابة الصهر ، بدون تنكيث لقوى روابط النسب ، وقيل : المراد بالتوبة ما هي سبب له من الغفران
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26والله عليم حكيم أي : إنه ذو العلم والحكمة الثابتين اللذين تصدر عنهما أحكامه ، فتكون موافقة لمصالحكم ومنافعكم ; لأن علمه الواسع محيط بها وحكمته البالغة تقضي بها .
[ ص: 24 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26nindex.php?page=treesubj&link=28975يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَيُبَيِّنَ حُكْمَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلِيلُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَخْ ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ : مَا هِيَ حِكْمَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفَائِدَتُهَا لَنَا ؟ وَهَلْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إِيَّاهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كُلَّ امْرَأَةٍ ، وَهَلْ كَانَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ تَشْدِيدًا عَلَيْنَا ، أَمْ تَخْفِيفًا عَنَّا ؟ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً أَجْوِبَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ، وَقَوْلُهُ : لِيُبَيِّنَ مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ ، فَاللَّامُ نَاصِبَةُ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ ـ كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ ـ وَمِثْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ( 61 : 8 ) ، أَقُولُ : وَيَجْعَلُ
الْبَصْرِيُّونَ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفًا ، وَاللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْعَاقِبَةِ ، أَيْ : يُرِيدُ اللَّهُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ; لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ بِهِ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ وَقِوَامُ فِطْرَتِكُمْ ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ أُخْرَى .
وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا ، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ .
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ ،
[ ص: 25 ] وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ شُعُورًا بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَنْشَأَ وُجُودِهِ وَمُمِدَّ حَيَاتِهِ ، وَقِوَامَ تَأْدِيبِهِ وَعُنْوَانَ شَرَفِهِ ، وَبِهَذَا الشُّعُورِ يَحْتَرِمُ الِابْنُ أَبَاهُ ، وَبِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ يَعْطِفُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَيُسَاعِدُهُ .
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا ، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا ، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا ، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا ، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا ، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ
nindex.php?page=treesubj&link=10972نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا ، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ .
وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ
الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ : إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا ، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ : لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=10974نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ .
وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَفِي الْحَدِيثِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918642عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ " ، أَيْ : هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ
[ ص: 26 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=133أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( 2 : 133 ) ، فَعَدُّوا
إِسْمَاعِيلَ مِنْ آبَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ
لِإِسْحَاقَ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ صِلَةُ الْعُمُومَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُبُوَّةِ ، وَصِلَةُ الْخُئُولَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُمُومَةِ ، قَالُوا : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10972تَحْرِيمَ الْجَدَّاتِ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَدَاخِلٌ فِيهِ ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْفِطْرَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَاطِفَةِ صِلَةِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ ، وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاوُنُ بِهَا وَأَلَّا تَنْزَويَ الشَّهْوَةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=10975نِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ .
وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَكَذَا صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا ، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ .
هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا ، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ :
السَّبَبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ ، وَقَدْ قَالُوا : إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ
[ ص: 27 ] فِي النَّفْسِ يُزَاحِمُهُ شُعُورُ عَوَاطِفِ الْقَرَابَةِ الْمُضَادَّةِ لَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يُزِيلَهُ وَإِمَّا أَنْ يُزَلْزِلَهُ وَيُضْعِفَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ آنِفًا .
وَالسَّبَبُ الثَّانِي : يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا ، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً ، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا ، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ .
وَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ، قَالَ : فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا ، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12352إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ
عُمَرَ قَالَ
لِآلِ السَّائِبِ : " اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا " ، أَيْ : تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا ، وَعَلَّلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=12968حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ( 4 : 23 ) ، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ .
وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=10977حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ
[ ص: 28 ] وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ ، وَأُمُّهَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ شَقِيقَةُ رُوحِهِ بَلْ مُقَوِّمَةُ مَاهِيَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمِّمَتُهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الِاحْتِرَامِ ، وَيَقْبُحُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ ضَرَّةً لَهَا ; فَإِنَّ لُحْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَةٍ صَارَ كَأَحَدِ أَفْرَادِهَا وَتَجَدَّدَتْ فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةُ مَوَدَّةٍ جَدِيدَةٍ لَهُمْ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّغَايُرِ وَالضِّرَارِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا ؟ كَلَّا ، إِنْ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالْقَرَابَةِ ، وَيَكُونُ سَبَبَ فَسَادِ الْعَشِيرَةِ ، فَالْمُوَافِقُ لِلْفِطْرَةِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الزَّوْجَةِ كَأُمِّ الزَّوْجِ ، وَبِنْتُهَا الَّتِي فِي حِجْرِهِ كَابْنَتِهِ مِنْ صُلْبِهِ ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زَوْجُ ابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ ، يُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْعَاطِفَةَ الَّتِي يَجِدُهَا لِابْنَتِهِ ، كَمَا يُنْزِلُ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ حَرَّمَ
nindex.php?page=treesubj&link=12993_10988الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لِتَكُونَ الْمُصَاهَرَةُ لُحْمَةَ مَوَدَّةٍ ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الضِّرَارِ وَالنَّفْرَةِ ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُبِيحَ نِكَاحَ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا ، أَوْ زَوْجَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَزَوْجَةِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ ؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10799حِكْمَةَ الزَّوَاجِ هِيَ سُكُونُ نَفْسِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ ، وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَهُمَا ، وَبَيْنَ مَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ( 30 : 21 ) ، فَقَيَّدَ سُكُونَ النَّفْسِ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ وَتَزْدَادُ وَتَقْوَى بِالْوَلَدِ ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ .
فَهَذَا مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 30 : 30 ) ، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 : 20 ، 21 ) ، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ .
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ
أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيِّ ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ : وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ :
[ ص: 29 ] " مِنْهَا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِالِاصْطِحَابِ وَالِارْتِبَاطِ ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ لُزُومِ السَّتْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَارْتِبَاطُ الْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الطَّبِيعِيِّ دُونَ الصِّنَاعِيِّ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ بِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْهُنَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ لَهَاجَتْ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى ، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَتَوَلَّهُ بِهَا ، وَيَقْتَحِمُ فِي الْمَهَالِكِ لِأَجْلِهَا ، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ يَخْلُو مَعَهَا وَيَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَأَيْضًا لَوْ فُتِحَ بَابُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَمْ يُسَدَّ ، وَلَمْ تَقُمِ اللَّائِمَةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ عَلَيْهِنَّ ، فَإِنَّهُ سَبَبُ عَضْلِهِمْ إِيَّاهُنَّ عَمَّنْ يَرْغَبْنَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنَّهُ بِيَدِهِمْ أَمْرُهُنَّ وَإِلَيْهِمْ إِنْكَاحُهُنَّ ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِنْ نَكَحُوهُنَّ مَنْ يُطَالِبُهُمْ عَنْهُنَّ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُنَّ ، وَنُظِرَ لِذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ عَضْلِهِمْ لِلْيَتَامَى الْغَنِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ :
" وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ !
" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ " .
قَالَ : " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا ، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ ، وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، أَوْ خَالَتِهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ :
قَالَ : " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا ، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ ،
[ ص: 30 ] وَالتَّحَاسُدَ شَنِيعٌ ، وَالْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَازِعَةٌ ، فَكَأَنَّ أَمْرَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ " .
قَالَ : " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ " ، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ : " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ : بَاتَ عِنْدَهَا ، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ ، اهـ ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ 4 ص 282 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ .
قَالَ : " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=221وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ( 2 : 221 ) ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا ، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي ، وَقَدْ نَقَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ
الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ .
قَالَ : " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا ، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا ، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ : مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا ، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=10803الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللَّهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا ، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ، انْتَهَى .
ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ : " فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا ، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا " .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، أَيْ : طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ ، كَمَا قَالَ :
[ ص: 31 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا 5 : 48 ] ، وَإِنَّمَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=28639_31789دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا فِي التَّوْحِيدِ ، وَرُوحِ الْعِبَادَةِ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَوِّمُ الْمَلَكَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ .
ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، أَيْ : وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ : إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا .