ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا .
قال البقاعي في نظم الدرر : ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض ، والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم ، ومنعت فيه قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثا ، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به ، والطاعة لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الموقف في ذلك اليوم ، والذي حظرت معاني اللطف [ ص: 92 ] والجمال فيه الالتفات إلى غيره ، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث ، فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلخ ، وقال بعضهم في وجه الاتصال : إنهم لما نهوا عن الإشراك به تعالى نهوا عما يؤدي إليه بغير قصد ، وقيل : لما أمروا فيما تقدم بالعبادة أمروا هنا بالإخلاص في رأس العبادة .
الأستاذ الإمام : أمر الله تعالى في الآيات السابقة بعبادته وترك الشرك به وبالإحسان للوالدين وغيرهم ، وتوعد الذين لا يقومون بهذه الأوامر والنواهي ، وقد عرفنا من سور أخرى أن الله تعالى يأمر بالاستعانة بالصلاة على القيام بأمور الدين وتكاليفه كما قال : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ( 2 : 153 ) ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( 29 : 45 ) ، وقال : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ( 7 : 19 - 22 ) ، وقد كثر في القرآن الأمر بالصلاة ، لا بالصلاة هكذا مطلقا بل بإقامتها ، وإنما إقامتها القيام بها على الوجه الأكمل ، وهو أن ينبعث المؤمن إليها بباعث الشعور بعظمة الله وجلاله ويؤديها بالخشوع له تعالى ، فهذه الصلاة هي التي تعين على القيام بالأوامر وترك النواهي ; ولذلك جاء ذكرها هاهنا عقب تلك الأوامر والنواهي الجامعة ، وقد ذكرت الصلاة في القرآن بأساليب مختلفة ، وذكرت هاهنا في سياق النهي عن الإتيان بها في حال السكر الذي لا يتأتى معه الخشوع والحضور مع الله تعالى بمناجاته بكتابه ، وذكره ودعائه ، فالمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية ، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد ؛ إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي وفي التنزيل خاصة ولا تقربوا الزنا ( 17 : 32 ) ، والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته ، ومن مقدمات الصلاة الإقامة ، فقد سنها الله لنا لإعدادنا للدخول في الصلاة .
وقال بعض المفرقين الذين يحملون القرآن على مذاهبهم المستحدثة : إن الآية تدل على جواز ، بل ; إذ وجه الأمر إلى السكران وهو لا يعي الخطاب ، والجواب عنه من وجوه : وقوع التكليف بالمحال
( أحدها ) : أن الخطاب موجه إلى المسلم قبل السكر بأن يجتنبه إذا ظن أنه ينتهي به إلى التلبس بالصلاة في أثنائه ، فهو أمر بالاحتياط واجتناب السكر في أكثر الأوقات ، أقول : سيأتي ما يؤيده من العبارة ، ولذلك قال العلماء : إن هذه الآية تمهيد لتحريم السكر تحريما قطعيا لا هوادة فيه ، فإن من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران ، يترك الشرب عامة النهار ، وأول الليل لانتشار الصلوات الخمس في هذه المدة ، فالوقت الذي يبقى للسكر في وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر ، فيقل الشرب فيه لمزاحمته للنوم الذي [ ص: 93 ] لا بد منه ، وأما أول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة ، فهو وقت العمل والكسب لأكثر الناس ، ويقل أن يسكر فيه غير المترفين الذين لا عمل لهم ، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر ، وصاروا يعلمون ما يقولون قال :
( ثانيها ) : أن الأمر موجه إلى جمهور المؤمنين ; لأنهم متكافلون مأمورون بمنع المنكر فعليهم أن يمنعوا السكران من الدخول في الصلاة ، فالأمر على حد : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ( 4 : 35 ) ، أي على حد الأقوال إذ يدخل فيه الزوجان .
( ثالثها ) : أن السكر الذي يطلبه الغواة لا ينافي فهم الخطاب ، وهو النشوة والسرور ففي هذه الحالة يفهم السكران ويفهم ويصح أن يوجه إليه الخطاب ، ولكنه لا يضبط أعماله وأفكاره وأقواله بالتفصيل ؛ ولذلك قال تعالى : حتى تعلموا ما تقولون فأما ما ينتهي إليه السكران مما لا يقصد فصاحبه لا يخاطب فيه ، وهو ما عرف به أبو حنيفة السكران إذ قال : إنه من لا يفرق بين الأرض والسماء ، وهناك قول آخر في معنى هذا القول ، وهذا التعليل للنهي يفيد أن العلم بما يقوله الإنسان في الصلاة من تلاوة وذكر واجب أو شرط ، والعلم به فهمه ; ولهذا المعنى أجاز أبو حنيفة الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها أي إلى أن يحسنها أو يعجز ، هذا هو حاصل المعنى على القول بأن المراد بالصلاة حقيقتها كما هو الظاهر ، فإن أريد بها موضعها فالمراد تنزيه المساجد وهي بيوت الله عن اللغو والكلام الباطل الذي من شأنه أن يبدر من السكران .
أقول : روى أبو داود ، وحسنه ، والترمذي ، والنسائي والحاكم وصححه عن علي كرم الله وجهه قال : " صنع لنا طعاما فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت " ، وفي رواية عبد الرحمن بن عوف ، ابن جرير وابن المنذر عن علي : " أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن ، وكانت الصلاة صلاة المغرب ، وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة " ، وهذا يدل على أن المراد بالصلاة حقيقتها ، وروي عن ، سعيد بن المسيب والضحاك ، وعكرمة ، والحسن أن المراد بالصلاة هنا مواضعها ، وروي عن أنه حمل اللفظ على الأمرين معا بناء على تجويزه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وروي عن الشافعي جعفر ، والضحاك ، وهو إحدى الروايتين عن أن المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم ، ولعل من روي عنه ذلك شبه النعاس بالسكر وجعل حكمه كحكمه ، فظن الراوي أنه فسره به والعلة في قياسه عليه ظاهرة ، وفي حديث ابن عباس أنس عند مرفوعا " البخاري " ، " وحتى " للغاية وفي بعض كلام الأستاذ الإمام ما يشعر بأنها [ ص: 94 ] للتعليل ، والظاهر الأول كحتى في الجملة الآتية ، وهو يدل على وجوب معرفة اللغة العربية على كل مسلم لفهم ما يقول في الصلاة . إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ، فلينم حتى يعلم ما يقول