ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا .
قال الرازي : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أنه تعالى لما ذكر ـ من أول هذه السورة إلى هذا الموضع ـ أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية ، قطع هاهنا ببيان الأحكام الشرعية ، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين ; لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر ، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة اهـ ، وقال النيسابوري الذي اختصر التفسير الكبير للرازي في تفسيره : ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم ; لأن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة اهـ .
[ ص: 111 ] أقول : غلط المفسران كلاهما في قولهما : إن الكلام انتقال إلى ذكر أحوال المتقدمين ، وإنما هو انتقال إلى ذكر أحوال المعاصرين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهل الكتاب ، فكأنهما توهما أن الآية نزلت في زمنهما ، وما قالاه في الانتقال من أسلوب إلى آخر صحيح وهو أعم مما نحن فيه ، وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى :
الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ; ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم ، فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة ، والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية ، وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح الأنفس ، وهو أثرها المراد منها ، وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها ، لا في صورتها فقط ، ولكن جرت سنة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة ، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع ، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم : أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها ، وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ، ولم ينالوا به مرضاته ، ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده ، فقال :
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ، قال : نزلت في طائفة من ابن جرير اليهود ، وروي ذلك عن وغيره ، ويرى بعضهم أن أهل الكتاب فيها أعم ، والرؤية في قوله تعالى : ابن عباس ألم تر قلبية علمية كما قال ، وقيل : بمعنى النظر ، والمعنى ألم ينته علمك أيها الرسول ، أولم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا نصيبا أي : حظا وطائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها فهم يشترون الضلالة باختيارها لأنفسهم بدلا من الهداية ، ويريدون أن تضلوا أيها المسلمون السبيل أي : طريق الحق القويم كما ضلوا ، فهم يكيدون لكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله ، وذلك أنهم لم يحفظوه في زمن إنزاله عن ظهر قلب كما حفظنا القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا ، حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه البعض الآخر ، بل كان عند ابن جرير اليهود نسخة واحدة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، ففقدت كما بينا ذلك في تفسير الآية الأولى من سورة آل عمران [ ص 129 وما بعدها من الجزء الثالث من التفسير ] ، وفيه بحث تاريخ كتابتها وحقيقة الموجود الآن منها وبحث كتابة الإنجيل كذلك ، ويؤيد ذلك قوله تعالى في كل من اليهود والنصارى : فنسوا حظا مما ذكروا به ( 5 : 14 ) ، وسيأتي في سورة المائدة [ ص: 112 ] فهو تصريح بمفهوم ما هنا ، يقول هنا : إنهم أوتوا نصيبا أي حظا ، ويقول هناك : إنهم نسوا حظا ، فالكلام يؤيد ويصدق بعضه بعضا ، والتعبير : أوتوا الكتاب في موضع آخر لا يعارضه ؛ لأن الكتاب للجنس ، ومن لم يعرف هذه الحقيقة من المفسرين قال : إن المراد بالكتاب علمه .
وقال الأستاذ الإمام ، قال : أوتوا نصيبا من الكتاب لأنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها ، والزيادة فيه كالنقص منه ، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا مثلا ، وكانوا يفعلون ذلك ، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم والتقاليد الدينية فهم يتمسكون بها وليست من التوراة ، ولا مما يعرفونه عن موسى ـ عليه السلام ـ وهم يدعون اتباعه في الدين ، فالأمر المحقق الذي لا شك فيه هو أنهم يعملون ببعض أحكام التوراة وقد أهملوا سائرها ، ففي مقام الاحتجاج بالعمل بالدين وعدمه يذكر الواقع وهو أنهم لم يؤتوا الكتاب كله إذ لم يعملوا به كله ، وإنما عملوا ببعضه ، وفي مقام الاحتجاج عليهم بالإيمان بالنبي والقرآن يناديهم : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا إلخ كما ترى في الآية التالية لهذه الآية ، ومثلها كثير .
هذا ما قرره الأستاذ في الدرس ولما انتهى إلى هنا قلت : أليس التعبير بالنصيب إشارة أو نصا على أنهم لم يحفظوا الكتاب كله ، بل فقدوا حظا ونصيبا آخر منه ؟ فقال : بلى فأجاز ما فهمته وأقره وكنت بينت هذا من قبل في الكلام على شريعة حمورابي ونسبتها إلى التوراة ، وما هي التوراة ، وذلك في المجلد السادس من المنار .
فالذي لم يعملوا به من التوراة على ما اختاره الأستاذ الإمام يكون قسمين ; أحدهما : ما أضاعوه ونسوه ، وثانيهما : ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به وهو كثير أيضا ، وقال بعض المفسرين : إن المراد بما أضاعوه من الكتاب نعت نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجعل بعضهم اشتراء الضلالة هو : بذل المال لتأييد اليهودية والكيد للإسلام ومقاومته ، فقال : كان بعض عوام اليهود يعطون أحبارهم المال ليستعينوا به على ذلك .