كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قال الأستاذ الإمام : نضج الجلود هو نحو نضج الثمار والطعام وهو عبارة عن فقد التماسك الحيوي ، والبعد عن الحياة ، وإنما تتبدل لأن النضج يذهب القوة الحيوية التي بها الإحساس ، فإذا بقيت ناضجة يقل الإحساس بما يمسها أو يزول ; لذلك تتبدل بها جلودا حية غيرها ليذوقوا العذاب لأن الذوق والإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد ، ومن هنا قال بعض المفسرين : إن المراد بتبديل الجلود دوام العذاب ، فالكلام تمثيل أو كناية عن دوام الإحساس بالعذاب ، فإنه أراد أن يزيل وهما ربما يعرض للناس بالقياس على ما يعهدون في أنفسهم من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عاديا عنده ، كما نرى من حال الرجل تعمل له عملية جراحية وتتكرر ، فإنه في المرة الأولى يتألم ألما شديدا ، ثم لا يزال التألم يخف بالتدريج حتى نراه لا يبالي ، وهكذا نشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمرها .
[ ص: 134 ] أقول : والظاهر أن ـ إن كان حقيقة لا مجازا ـ يكون هو أثر لفح النار بسمومها لأهل تلك الدار كما قال تعالى : نضج الجلود من العذاب تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( 23 : 104 ) ، ومتى لفح الجلد مرارا يبطل إحساسه وينفصل عن البشرة ويتربى تحت جلد آخر كما هو مشاهد في الدنيا .
ثم تكلم الأستاذ عن استشكال بعض المتكلمين لتعذيب الجلود الجديدة مع أن العصيان لم يكن بها ، ولم أكتب ما قاله ولا أتذكره ، والمشهور في الجواب عندهم أن البدل يكون عين الأصل المبدل منه في مادته ، وغيره في صورته ، وهذه سفسطة ظاهرة ، وذكر الرازي بعد هذا الجواب جوابا ثانيا : وهو أن المعذب هو الإنسان وذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيته بل هو كالشيء الزائد الملتصق به ، وثالثا : وهو أن المراد بالجلود السرابيل ، قال : وطعن فيه القاضي بمخالفته للظاهر ، ورابعا : هو أن هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع ، قال : كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ ، وكلما انتهى إلى آخره فقد ابتدأ من أوله ، فكذلك قوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود دوام العذاب وعدم انقطاعه ، انتهى تصويره لهذا الوجه ، وقد علمت أنه يوافق ما اختاره الأستاذ الإمام في العبارة ورأيت أنه صورها بما هو أقرب من هذا التصوير إلى العقل واللفظ ، وذكر الرازي عن وجها خامسا ورده لظهور بطلانه . السدي
وقد رد الألوسي الإشكال من أصله قال : وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل ، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول ; لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور ، وهو أشبه الأشياء بالآلة ; فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ، ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك ، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه ; لأن ذلك الحمل غير اختياري ، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جسد كانت ، وكذا يقال في النعيم اهـ .
وقد أيد هذا الرأي بما ورد من الأحاديث في كبر أجساد أهل الآخرة ، ثم قال : " ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط ، ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام فعلا ، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى ، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت ، والنصوص في هذا الباب متعارضة ، فمنها ما يدل على إعادة [ ص: 135 ] الأجسام بعينها بعد إعدامها ، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ، ولا أرى بأسا ـ بعد القول بالمعاد الجسماني ـ في اعتقاد أي الأمرين اهـ ، وله الحق في رد الإيراد ، ولكنه استقل في بعض القول وقلد المتكلمين في بعض آخر كإعادة المعدوم ، ولهذا البحث موضع آخر نحرره فيه إن شاء الله تعالى ، ويؤيد ما ذكره من أن النفس هي التي تذوق العذاب كلمة ( ليذوقوا ) ولم يقل " لتذوق " أي الجلود .
وذكر بعضهم في الآية إشكالا آخر ، وهو أن أصل الذوق تناول شيء قليل بالفم ليعرف طعمه فلا يتجوز به عن العذاب القوي الشديد أو أشد العذاب ، وأجاب الرازي بقوله : المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق المذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق اهـ .
ولست أدري ما هو المانع من كون هذا العذاب يسمى أشد العذاب ، وإن كان هو في نفسه قليلا كما يدل عليه ظاهر لفظ " يذوقوا " وقد استعمل القرآن لفظ الذوق في العذاب كثيرا ! فاختياره مقصود ، وإنما يعرف الأشد بالقياس على غيره ، فمهما كان عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا ، وأكثر الذين يظنون أنهم ناجون من العذاب في الآخرة يودون أن يكون عذاب المعذبين شديدا بالغا منتهى ما يمكن من الشدة كأنهم حرموا من ذوق طعم الرحمة ; على أنه ليس بيدهم موثق من الله بنجاتهم وأمنهم من العذاب .
إن الله كان عزيزا حكيما ، أي إنه تعالى غالب على أمره ، حكيم في فعله ، فكان من حكمته أن جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب ، وجعل سنته في ربط الأسباب بمسبباتها مطردة لا يستطيع أحد أن يغلبه فيبطل اطرادها ؛ لأنه عزيز لا يغلب على أمره ، كما جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم المقيم وبين ذلك بقوله :