ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم رد الشيء صرفه وإرجاعه وإعادته ، وفي الرد هنا وفي قوله السابق : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، معنى التفويض : أي ولو أرجعوا هذا الأمر العام الذي خاضوا فيه وأذاعوا به ، وفوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أي أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها ، وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، أي : لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويظهرون مخبأه منهم .
- كما قال الاستنباط : استخراج ما كان مستترا عن إبصار العيون عن معارف القلوب ، وأصله استخراج النبط من البئر وهو الماء أول ما يخرج ، وفي المستنبطين وجهان : ابن جرير
أحدهما : أنهم الرسول وبعض أولي الأمر ، فالمعنى لو أن أولئك المذيعين ردوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عنده وعند بعض أولي الأمر ، وهم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم ، فهو إذا من الأمور التي لا يكتنه سرها كل فرد من أفراد أولي الأمر ، وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعدادا للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها دون بعض ، فهذا يرجح رأيه في المسائل الحربية ، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية ، وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية ، وكل المسائل تكون شورى بينهم ، فإذا كان مثل هذا لا يستنبطه إلا بعض أولي الأمر دون بعض ، فكيف يصح أن يجعل شرعا بين العامة يذيعون به ؟
والوجه الثاني : أن المستنبطين هم بعض الذين يردون الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أي لو ردوا ذلك الأمر إليهم وطلبوا العلم به من ناحيتهم لعلمه من يقدر أن يستفيد العلم به من الرسول ومن أولي الأمر منهم ، فإن الرسول وأولي الأمر هم العارفون به ، وما كل من يرجع إليهم فيه يقدر أن يستنبط من معرفتهم ما يجب أن يعرف ، بل ذلك مما يقدر عليه بعض الناس دون بعض .
والمختار الوجه الأول ; فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، وإليهم دون غيرهم من بعده ; لأن جميع المصالح العامة توكل [ ص: 244 ] إليهم ، ومن أمكنه أن يعلم بهذا التفويض شيئا يستنبطه منهم فليقف عنده ، ولا يتعده ، فإن مثل هذا من حقهم ، والناس فيه تبع لهم ، ولذلك وجبت فيه طاعتهم .
لا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين ، ولا خدشا لحريته واستقلاله ، ولا نيلا من عزة نفسه ، فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه ، لم يكلف أن يقلد أحدا في عقيدته ولا في عبادته ، ولا غير ذلك من شئونه الخاصة به ، وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شئون الأمة ومصالحها ، وأن يفتات عليها في أمورها العامة ، وإنما الحكمة والعدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شئونها كالأفراد في خاصة أنفسهم ، فلا يتصرف في هذه الشئون العامة إلا من يثق بهم من أهل الحل والعقد ، المعبر عنهم في كتاب الله بأولي الأمر ; لأن تصرفهم قد وثقت به الأمة هو عين تصرفها ، وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها .
زعم الرازي وغيره أن في هذه الآية دليلا على ، قال الأستاذ الإمام : وإنما تعلق الأصوليون في هذا بكلمة " يستنبطونه " وهي من مصطلحاتهم الفنية ، ولم تستعمل في القرآن بهذا المعنى فقولهم مردود ، أقول : وقد فرع حجية القياس الأصولي الرازي على هذه المسألة أربعة فروع :
1 - أن . في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص
2 - أن . الاستنباط حجة
3 - أن العامي يجب عليه . تقليد العلماء في أحكام الحوادث
4 - أن . النبي كان مكلفا باستنباط الأحكام كأولي الأمر
وأورد على ما قاله بعض الاعتراضات وأجاب عنها كعادته ، ولما كانت المسألة التي أخذ منها هذه الفروع وبنى عليها هذه المجادلة - خارجة عن معنى الآية ، لا تدخل في معناها من باب الحقيقة ولا من باب المجاز ولا من باب الكناية ، كان جميع ما أورده لغوا وعبثا .
هذا شاهد من أفصح الشواهد على ما بيناه قبل من سبب غلط المفسرين ، وبعدهم عن فهم الكثير من آيات الكتاب المبين ، بتفسيره بالاصطلاحات المستحدثة ، فأهل الأصول والفقه اصطلحوا على معنى خاص لكلمة الاستنباط ، فلما ورد هذا اللفظ في هذه الآية حمل الرازي على فطنته أن يخرج بها عن طريقها ويسير بها في طريق آخر ذي شعاب كثيرة يضل فيها السائر ، حتى لا مطمع في رجوعه إلى الطريق السوي .
معنى الآية واضح جلي ، وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقا يخوضون في أمر الأمن والخوف ، ويذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر ، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم [ ص: 245 ] والقائد العام في الحرب ، وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور ويعرفون مصلحة الأمة فيها ، وما ينبغي إذاعته وما لا ينبغي ، فأين هذا من مسائل النص في الكتاب على بعض الأحكام والسكوت عن بعض ؟ ووجوب ، ووجوب استنباط ما سكت عنه مما نص عليه على الرسول وعلى أولي الأمر ؟ ليس هذا من ذاك في شيء . اتباع العامة للعلماء فيما يستنبطونه مطلقا
على أن الرازي كان أبطل قول من قال إن أولي الأمر هم العلماء ، وقول من قال : إنهم الأمراء ، وأثبت أنهم أهل الحل والعقد أي جماعتهم ، فكيف يبطل هنا ما حققه في آية يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) ، بقوله بوجوب تقليد العلماء ، كما أبطل به ما حققه في تفسير آيات كثيرة من بطلان التقليد ؟ قد علمت أيها القارئ الذي أنعم الله عليه بنعمة الاستقلال في الفهم أن الآية التي قبل هذه الآية قد أوجبت على كل مسلم ، فكانت من الآيات الكثيرة الدالة على منع تدبر القرآن والاهتداء به وفاقا التقليد في أصول الدين للرازي الذي صرح بذلك في تفسير الآية نفسها ، وكذا في الفروع العملية الشخصية كالعبادات والحلال والحرام ; لأن أكثرها معلوم من الدين بالضرورة ، والنصوص فيها أوضح وأقرب إلى الفهم من مسائل أصول الدين ، وفي حديث الصحيحين : الحديث ، وهو قد أوجب في الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه أن تترك لئلا تجر إلى الحرام ، ولم يوجب على المشتبه في شيء أن يرجع إلى ما يعتقده غيره ويقلده فيه ، وأما المسائل العامة كالحرب والسياسة والإدارة ، فهي التي تفوضها العامة إلى أولي الأمر منهم وتتبعهم فيها ، هذا ما تهدي إليه الآية وفاقا لغيرها من الآيات ، ولا اختلاف في القرآن . الأمور المشتبه فيها