وقد أسند الله - تعالى - فعل هذا الإركاس إليه وقرنه بسببه ، وهو كسب أولئك المركسين للسيئات والدنايا من قبل حتى فسدت فطرتهم ، وأحاطت بهم خطيئتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق ، حتى لم يعد يخطر على بالهم ولا يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه ، مقاومة ظاهرة عند القدرة ، وخفية عند العجز ، هذا هو أثر كسبهم للسيئات في نفوسهم وهو أثر طبيعي ، وإنما أسنده الله - تعالى - إليه ; لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العاملين ، أو معنى أركسهم أظهر ركسهم بما بينه من أمرهم وهذا هو معنى قوله : أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، وهو استفهام إنكاري معناه ليس في استطاعتكم أن تغيروا سنن الله في نفوس الناس ، فتنالوا منها ضد ما يقتضيه ما انطبع فيها من تقضي سنته تعالى في خلقه بأن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا ، يصل بسلوكها إليه ، فإن للحق سبيلا واحدة وهي صراط الفطرة المستقيم ، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وشمالها ، كل من سلك سبيلا منها بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ( 6 : 153 ) ، ولما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية وضح معناها بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا جعله مثالا لسبيل الله ، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان ، ومن المحسوس الذي لا يحتاج إلى ترتيب الأقيسة للاستدلال أن غاية أي خط من تلك الخطوط لا تلتقي بغاية الخط الأول .
قلت : إن سبيل الحق هي صراط الفطرة ، وبيان هذا أن ، ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني ، على قدر علمه بالحق والخير والكمال ، مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته بهذه الأمور ، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه ، وظنه أنه ليس وراءه خير له منه وأنفع وأكمل ، أولئك الذين يقطعون على أنفسهم طريق العقل والنظر ، والتمييز بين الخير والشر ، والنفع والضر ، والحق والباطل ، فيكونون أتباع كل ناعق ، ويسلكون ما لا يحصى من السبل وإن ادعى كل منهم الانتساب إلى زعيم واحد ، وشبهتهم [ ص: 264 ] على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر ، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشريهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه ، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء ولا شيئا يعتد به من علمهم ، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ومن قطع على نفسه طريق النظر ، وكفر نعمة العقل ، لا يمكن إقامة الحجة عليه ; ولذلك قال تعالى : ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائما ويطلب زيادة العلم ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ، فإن " سبيلا " نكرة في سياق النفي تفيد العموم ، كأنه قال : من ترك سبيل الله وهي اتباع الفطرة باستعمال العقل كان من سنة الله أن يكون ضالا طول حياته إذ لا تجد له سبيلا أخرى يسلكها فيهتدي بها إلى الحق .