ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، أي : لا أحد أحسن دينا ممن جعل قلبه سلما خالصا لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء ، ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والحجاب ، بل يكون موحدا صرفا لا يرى في الوجود إلا الله وآثار صفاته وسننه في ربط الأسباب بالمسببات ، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته ، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من أبوابها وهي السنن والأسباب ولا يدعو معه ولا من دونه أحدا في تيسير هذه الأسباب ، وتسهيل الطرق وتذليل الصعاب ، وهو مع هذا الإيمان الخالص ، والتوحيد الكامل محسن في عمله ، متقن لكل ما يأخذ به ، متخلق بأخلاق الله الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأتقن كل شيء صنعه واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، أي : واتبع في دينه ملة إبراهيم حنيفا أي : حال كونه حنيفا مثل إبراهيم ، أو حال كون إبراهيم حنيفا ، أي : اتبعه في حنيفيته ، التي كان عليها ، وهي ميله عن الوثنية وأهلها وتبرؤه مما كان عليه أبوه وقومه منها وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ( 43 : 26 - 28 ) ، أي : جعل البراءة من الشرك ونزغاته وتقاليده والاعتصام بالتوحيد الخالص كلمة باقية في عقبه يدعو إليها النبيون والمرسلون منهم .
الأستاذ الإمام : تقدم في الآيات السابقة وصف الضالين الذين لا يستعملون عقولهم في فهم الدين وآياته ، وذكر حظ الشيطان منهم وإشغالهم بالأماني الخادعة ، ثم بين أن أمر [ ص: 358 ] الآخرة ليس بالأماني ، وإنما هو بالعمل والإيمان ، وأن ، والحقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الأوقات والأحوال ، ولا تتبدل بتبديل الأجيال والآجال ، ثم زاد هذا بيانا بهذه الآية فبين أن صفوة الأديان التي ينتحلها الناس هي ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد وإحسان العمل ، وعبر عن توجه القلب بإسلام الوجه لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك . العبرة عند الله بالقلوب والأعمال
وقد يظهر بعض الناس الخضوع أو الاحترام للآخر بإشارة اليد ، ولكن هذا يكون بالتعمل ويعرف بالمواضعة ، وما يظهر في الوجه هو الفطري الذي يدل على السريرة ، وهو يتمثل في كل جزء منه كالعينين والجبهة والحاجبين والأنف والحركة ، فإسلام الوجه لله هو تركه له ، بأن يتوجه إليه وحده في طلب حاجاته وإظهار عبوديته ، وهو كمال التوحيد وأعلى درجات الإيمان ، وأما الإحسان فهو إحسان العمل - خلافا للجلال فيهما إذا عكس - واتباع ملة إبراهيم يراد به فيما يظهر : ما أشار إليه في قوله عز وجل شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ( 42 : 13 ) ، فإقامة الدين مرتبة فوق مرتبة التدين المطلق ، وهي العمل به على وجه الكمال بحيث يقوم بناؤه ويثبت ، وعدم التفرق فيه والتعادي بين أهله .