قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا الظرف معمول لفعل محذوف : أي واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك ، أو معطوف على ما تقدم من قوله واذكروا ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه ، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه ليثبتوك يثبتوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم ، وغيرهما ، ومنه قول الشاعر :
فقلت ويحكم ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
وقيل : المعنى ليحبسوك ، يقال أثبته : إذا حبسه; وقيل : ليوثقوك ، ومنه : فشدوا الوثاق ( محمد : 4 ) .وقرأ الشعبي ، : " ليبيتوك " من البيات وقرئ " ليثبتوك " بالتشديد .
أو يخرجوك معطوف على ما قبله : أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك ، وجملة ويمكرون ويمكر الله مستأنفة ، والمكر : التدبير في الأمر في خفية ، والمعنى : أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المكايد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم ، وسمي ما يقع منه - تعالى - مكرا مشاكلة كما في نظائره والله خير الماكرين أي المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم ؛ فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون ، فيكون ذلك أشد ضررا عليهم وأعظم بلاء من مكرهم .
قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم قالوا تعنتا وتمردا وبعدا عن الحق قد سمعنا ما تتلوه علينا لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلوته علينا ، قيل : إنهم قالوا هذا توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك ، فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه ، ثم قالوا عنادا وتمردا : إن هذا إلا أساطير الأولين أي ما يستطره الوراقون من أخبار الأولين ، وقد تقدم بيانه مستوفى .
وإذ قالوا أي واذكر إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك بنصب الحق على أنه خبر كان ، والضمير للفصل ، ويجوز الرفع ، قال الزجاج : ولا أعلم أحدا قرأ بها ، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها .
ولكن القراءة سنة ، والمعنى إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق فأمطر علينا قالوا : هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار .
قال أبو عبيدة : يقال أمطر في العذاب ومطر في الرحمة ، وقال في الكشاف : قد كثر الإمطار في معنى العذاب .
أو ائتنا بعذاب أليم سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد .
فأجاب الله عليهم بقوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت يا محمد فيهم موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .
روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك : أي وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرون ، وقيل : المعنى : لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم ، وقيل : إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم : أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين ، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده ، وقيل : المعنى : وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والخطيب ، عن ابن عباس ، في قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ، يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه عليا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ فقال : لا أدري ، فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم [ ص: 537 ] والبيهقي ، عن ابن عباس ، فذكر القصة بأطول مما هنا ، وفيها ذكر الشيخ النجدي : أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاما ويعطوا كل واحد منهم سيفا ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل ، فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي ، فتفرقوا على ذلك .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبيد بن عمير قال : لما ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني ، قال : من حدثك بهذا ؟ قال : ربي ، قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا ، قال : أنا أستوصي به ؟ بل هو يستوصي بي .
وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه وهذا لا يصح ، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج في قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا قال : ليثبتوك يعني ليوثقوك .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن سعيد بن جبير ، قال : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط ، ، وطعيمة بن عدي ، ، والنضر بن الحارث ، وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله أسيري ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول ، قال : وفيه أنزلت هذه الآية : وإذا تتلى عليهم آياتنا وهذا مرسل .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، أنها نزلت في النضر بن الحارث .
وأخرج البخاري ، ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل بن هشام اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية فنزلت : وما كان الله ليعذبهم الآية .
وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة أنها نزلت في أبي جهل .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في الآية أنها نزلت في النضر بن الحارث .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد مثله .
وأخرج ابن جرير ، عن عطاء نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك فأنزل الله : وما كان الله ليعذبهم الآية .
قال ابن عباس ، كان فيهم أمانان : النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والاستغفار ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي الاستغفار .
وأخرج الترمذي ، وضعفه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنزل الله علي أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار .
وأخرج أبو الشيخ ، والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر قال : وما كان الله ليعذبهم الآية .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضا ، والأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مطلق الاستغفار كثيرة جدا معروفة في كتب الحديث .


