[ ص: 130 ] النوع الثاني
nindex.php?page=treesubj&link=28868معرفة المناسبات بين الآيات
وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ
أبو جعفر بن الزبير شيخ الشيخ
أبي حيان . وتفسير الإمام
فخر الدين فيه شيء كثير من ذلك .
[ ص: 131 ] واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر القائل فيما يقول . والمناسبة في اللغة : المقاربة ، وفلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله ، ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه ، وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة .
ومنه المناسبة في العلة في باب القياس : الوصف المقارب للحكم ; لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم ; ولهذا قيل : المناسبة أمر معقول ، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول .
وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتيمها ومرجعها - والله أعلم - إلى معنى ذلك ما رابط بينهما عام أو خاص ، عقلي أو حسي أو خيالي ، وغير ذلك من أنواع العلاقات ، أو التلازم الذهني ، كالسبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، والنظيرين والضدين ونحوه . أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر .
وفائدته : جعل أجزاء الكلام ، بعضها آخذ بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال الأكيد البناء المحكم المتلائم الأجزاء .
[ ص: 132 ] وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته ، وممن أكثر منه الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=16785فخر الدين الرازي وقال في تفسيره : " أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط " .
وقال بعض الأئمة : من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض ؛ لئلا يكون منقطعا .
وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم ، وفوائده غزيرة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي في " سراج المريدين " : " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله - عز وجل - لنا فيه ، فإنا لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ، ورددناه إليه " .
وقال الشيخ
أبو الحسن الشهرباني : " أول من أظهر
ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام
أبو بكر النيسابوري ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب ، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه : لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه ؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة ؟ وكان يزري على علماء
بغداد لعدم علمهم بالمناسبة " انتهى .
وقال الشيخ
عز الدين بن عبد السلام : " المناسبة علم حسن ، ولكن يشترط في حسن
[ ص: 133 ] ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد ، مرتبط أوله بآخره ، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر - قال - ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه ، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض ، إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض ، مع اختلاف العلل والأسباب ، كتصرف الملوك والحكام والمفتين ، وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة . وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها " انتهى .
قال بعض مشايخنا المحققين : " قد وهم
nindex.php?page=treesubj&link=28881من قال : لا يطلب للآي الكريمة مناسبة ; لأنها حسب الوقائع المتفرقة ، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون ، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف . وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل ، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى ، ولا كما نزل مفرقا ، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة . ومن المعجز البين أسلوبه ، ونظمه الباهر ، فإنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ( هود : 1 ) .
قال : والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ؟ ففي ذلك علم جم ، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له " .
قلت : وهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي ، وهو الراجح كما سيأتي ، وإذا
[ ص: 134 ] اعتبرت
nindex.php?page=treesubj&link=28881افتتاح كل سوره وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى كافتتاح سورة الأنعام بالحمد ، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء ، كما قال سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=75وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) ( الزمر : 75 ) وكافتتاح سورة فاطر بـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=75الحمد ) أيضا ، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=54وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ) ( سبأ : 54 ) ، وكما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=45فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) ( الأنعام : 45 ) .
وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح ، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة للأمر به .
وكافتتاح سورة البقرة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ( الآية : 1 و 2 ) ، فإنه إشارة إلى (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6الصراط ) في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهدنا الصراط المستقيم ) ( الفاتحة : 6 ) كأنهم لما سألوا الهداية إلى (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6الصراط المستقيم ) قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2الكتاب ) وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة ، وهو يرد سؤال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في ذلك .
وتأمل ارتباط سورة (
nindex.php?page=tafseer&surano=106&ayano=1لإيلاف قريش ) بسورة الفيل ؛ حتى قال
الأخفش : اتصالها بها من باب قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) ( القصص : 8 ) .
ومن
nindex.php?page=treesubj&link=28881لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها ; لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة : البخل ، وترك الصلاة ، والرياء فيها ، ومنع الزكاة ، فذكر هنا في مقابلة البخل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) ( الكوثر : 1 ) أي الكثير . وفي مقابلة ترك الصلاة
[ ص: 135 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فصل ) أي دم عليها ، وفي مقابلة الرياء (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2لربك ) أي لرضاه لا للناس ، وفي مقابلة منع الماعون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2وانحر ) ، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة .
وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=28881مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح ، وسورة الكهف بالتحميد ; لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد ، يقال : سبحان الله والحمد لله .
وذكر الشيخ
كمال الدين الزملكاني في بعض دروسه مناسبة استفتاحهما بذلك ما ملخصه : أن سورة
بني إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء ، وهو من الخوارق الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول من عند الله ، والمشركون كذبوا ذلك وقالوا : كيف يسير في ليلة من
مكة إلى
بيت المقدس ! وعاندوا وتعنتوا وقالوا : صف لنا
بيت المقدس ، فرفع له حتى وصفه لهم . والسبب في الإسراء أولا
لبيت المقدس ليكون ذلك دليلا على صحة قوله بصعود السماوات ، فافتتحت بالتسبيح تصديقا لنبيه فيما ادعاه ; لأن تكذيبهم له تكذيب عناد ، فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي كذبوه ، وأما الكهف فإنه لما احتبس الوحي ، وأرجف الكفار بسبب ذلك أنزلها الله ردا عليهم ، وأنه لم يقطع نعمته عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل أتم عليه بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة .
[ ص: 136 ] وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى السور ، فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض ! بل عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة .
[ ص: 130 ] النَّوْعُ الثَّانِي
nindex.php?page=treesubj&link=28868مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ
وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْأُسْتَاذُ
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ الشَّيْخِ
أَبِي حَيَّانَ . وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ
فَخْرِ الدِّينِ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ .
[ ص: 131 ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِلْمٌ شَرِيفٌ تُحْزَرُ بِهِ الْعُقُولُ وَيُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ الْقَائِلِ فِيمَا يَقُولُ . وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ : الْمُقَارَبَةُ ، وَفُلَانٌ يُنَاسِبُ فُلَانًا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيُشَاكِلُهُ ، وَمِنْهُ النَّسِيبُ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ الْمُتَّصِلُ كَالْأَخَوَيْنِ وَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ ، وَإِنْ كَانَا مُتَنَاسِبَيْنِ بِمَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ .
وَمِنْهُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْعِلَّةِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ : الْوَصْفُ الْمُقَارِبُ لِلْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ مُقَارَبَتُهُ لَهُ ظُنَّ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وُجُودُ الْحُكْمِ ; وَلِهَذَا قِيلَ : الْمُنَاسَبَةُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ ، إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ .
وَكَذَلِكَ الْمُنَاسَبَةُ فِي فَوَاتِحِ الْآيِ وَخَوَاتِيمِهَا وَمَرْجِعِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِلَى مَعْنَى ذَلِكَ مَا رَابَطَ بَيْنَهُمَا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ ، عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ أَوْ خَيَالِيٌّ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ ، أَوِ التَّلَازُمِ الذِّهْنِيِّ ، كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ ، وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَنَحْوِهِ . أَوِ التَّلَازُمِ الْخَارِجِيِّ كَالْمُرَتَّبِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ الْوَاقِعِ فِي بَابِ الْخَبَرِ .
وَفَائِدَتُهُ : جَعْلُ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ ، بَعْضُهَا آخِذٌ بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ ، فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حَالُهُ حَالَ الْأَكِيدِ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ .
[ ص: 132 ] وَقَدْ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ لِدِقَّتِهِ ، وَمِمَّنْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=16785فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ : " أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ " .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : مِنْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ أَنْ يَرْتَبِطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مُنْقَطِعًا .
وَهَذَا النَّوْعُ يُهْمِلُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، وَفَوَائِدُهُ غَزِيرَةٌ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ " : " ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَنَا فِيهِ ، فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ خَتَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ ، وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ " .
وَقَالَ الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ الشَّهْرَبَانِيُّ : " أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ
بِبَغْدَادَ عِلْمَ الْمُنَاسَبَةِ وَلَمْ نَكُنْ سَمِعْنَاهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ ، وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ : لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ
بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ " انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : " الْمُنَاسَبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ
[ ص: 133 ] ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ ، مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ارْتِبَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ - قَالَ - وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرَبْطٍ رَكِيكٍ يُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلِأَسْبَابِ مُخْتَلِفَةٍ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَرْتَبِطَ تَصَرُّفُ الْإِلَهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ ، كَتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ ، وَتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِأُمُورٍ مُتَوَافِقَةٍ وَمُتَخَالِفَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَطْلُبَ رَبْطَ بَعْضِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي نَفْسِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِهَا " انْتَهَى .
قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُحَقِّقِينَ : " قَدْ وَهِمَ
nindex.php?page=treesubj&link=28881مَنْ قَالَ : لَا يُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ ; لِأَنَّهَا حَسَبُ الْوَقَائِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا ، وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا وَتَأْصِيلًا ، فَالْمُصْحَفُ كَالصُّحُفِ الْكَرِيمَةِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ ، مُرَتَّبَةً سُوَرُهُ كُلُّهَا وَآيَاتُهُ بِالتَّوْقِيفِ . وَحَافِظُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَوِ اسْتُفْتِيَ فِي أَحْكَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ نَاظَرَ فِيهَا أَوْ أَمْلَاهَا لَذَكَرَ آيَةَ كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مَا سُئِلَ ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَتْلُ كَمَا أَفْتَى ، وَلَا كَمَا نَزَلَ مُفَرَّقًا ، بَلْ كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ . وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ ، وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ ، فَإِنَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هُودٍ : 1 ) .
قَالَ : وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً ، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا ؟ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ ، وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ " .
قُلْتُ : وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي ، وَإِذَا
[ ص: 134 ] اعْتَبَرْتَ
nindex.php?page=treesubj&link=28881افْتِتَاحَ كُلِّ سُورِهِ وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا خَتَمَ بِهِ السُّورَةَ قَبْلَهَا ، ثُمَّ هُوَ يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْحَمْدِ ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=75وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزُّمَرِ : 75 ) وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=75الْحَمْدُ ) أَيْضًا ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=54وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) ( سَبَأٍ : 54 ) ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=45فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الْأَنْعَامِ : 45 ) .
وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْبِيحِ ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ لِلْأَمْرِ بِهِ .
وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) ( الْآيَةَ : 1 وَ 2 ) ، فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6الصِّرَاطَ ) فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ( الْفَاتِحَةِ : 6 ) كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قِيلَ لَهُمْ : ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2الْكِتَابُ ) وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِبَاطُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْفَاتِحَةِ ، وَهُوَ يَرُدُّ سُؤَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ذَلِكَ .
وَتَأَمَّلِ ارْتِبَاطَ سُورَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=106&ayano=1لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ) بِسُورَةِ الْفِيلِ ؛ حَتَّى قَالَ
الْأَخْفَشُ : اتِّصَالُهَا بِهَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) ( الْقَصَصِ : 8 ) .
وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28881لَطَائِفِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّهَا كَالْمُقَابِلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ السَّابِقَةَ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقَ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ : الْبُخْلِ ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَالرِّيَاءِ فِيهَا ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ ، فَذَكَرَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُخْلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( الْكَوْثَرِ : 1 ) أَيِ الْكَثِيرَ . وَفِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ
[ ص: 135 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فَصَلِّ ) أَيْ دُمْ عَلَيْهَا ، وَفِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاءِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2لِرَبِّكَ ) أَيْ لِرِضَاهُ لَا لِلنَّاسِ ، وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْعِ الْمَاعُونِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2وَانْحَرْ ) ، وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِيِّ ، فَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=28881مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِالتَّسْبِيحِ ، وَسُورَةِ الْكَهْفِ بِالتَّحْمِيدِ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ حَيْثُ جَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ ، يُقَالُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ
كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي بَعْضِ دُرُوسِهِ مُنَاسَبَةَ اسْتِفْتَاحِهِمَا بِذَلِكَ مَا مُلَخَّصُهُ : أَنَّ سُورَةَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتُتِحَتْ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَالْمُشْرِكُونَ كَذَّبُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : كَيْفَ يَسِيرُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ! وَعَانَدُوا وَتَعَنَّتُوا وَقَالُوا : صِفْ لَنَا
بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَرُفِعَ لَهُ حَتَّى وَصْفَهُ لَهُمْ . وَالسَّبَبُ فِي الْإِسْرَاءِ أَوَّلًا
لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِصُعُودِ السَّمَاوَاتِ ، فَافْتُتِحَتْ بِالتَّسْبِيحِ تَصْدِيقًا لِنَبِيِّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَهُ تَكْذِيبُ عِنَادٍ ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِهَذَا الَّذِي كَذَّبُوهُ ، وَأَمَّا الْكَهْفُ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ الْوَحْيُ ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ نِعْمَتَهُ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ أَتَمَّ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فَنَاسَبَ افْتِتَاحُهَا بِالْحَمْدِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ .
[ ص: 136 ] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّوَرِ ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآيَاتِ وَتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ! بَلْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ .