واختلفوا فقيل : التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ، ورد أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظاهر .
قال الراغب : التفسير أعم من التأول ، وأكثر استعماله في الألفاظ ، وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا ، وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل في غيرها ، والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ .
واعلم أن في عرف العلماء كشف معاني القرآن ، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره ، والتفسير أكثره في الجمل . التفسير
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة ، أو في وجيز مبين بشرح ، كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( البقرة : 43 ) .
وإما في كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها ، كقوله : إنما النسيء زيادة في الكفر ( التوبة : 37 ) وقوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ( البقرة : 189 ) وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا ، نحو الكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق ، وتارة في جحود البارئ خاصة ، والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة ، وفي تصديق الحق تارة .
وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة .
[ ص: 286 ] وقيل : التأويل كشف ما انغلق من المعنى ، ولهذا قال البجلي : التفسير يتعلق بالرواية ، والتأويل يتعلق بالدراية ؛ وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم القائم بذات الرب - تعالى .
قال : ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع ؛ وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل ، وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه . وما احتمل معنيين أو أكثر ؛ فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق ، وإن وضع لمعان مختلفة ، فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر ، إلا أن يقوم الدليل ، وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا ، أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز ، كلفظة " المس " فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره ، وإن تنافيا ، فقد قال قوم : يحمل على المعنيين ، والوجه عندنا التوقف . أبو نصر القشيري
وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم : التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها ، تحتمله الآية ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط .
قالوا : وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير ، وقد رخص فيه أهل العلم ، وذلك مثل قوله - تعالى - : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( البقرة : 195 ) [ ص: 287 ] قيل : هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل ، وقيل : هو الذي يقنط من رحمة الله ، وقيل : الذي يمسك عن النفقة . وقيل : هو الذي ينفق الخبيث من ماله . وقيل : الذي يتصدق بماله كله ، ثم يتكفف الناس ؛ ولكل منه مخرج ومعنى .
ومثل قوله - تعالى - للمندوبين إلى الغزو ، عند قيام النفير : انفروا خفافا وثقالا ( التوبة : 41 ) .
قيل شيوخا وشبابا وقيل أغنياء وفقراء ، وقيل : عزابا ومتأهلين ، وقيل : نشاطا وغير نشاط . وقيل : مرضى وأصحاء ، وكلها سائغ جائز ؛ والآية محمولة عليها ، لأن الشباب والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف ، وضدهم ثقال .
ومثل قوله - تعالى - : ويمنعون الماعون ( الماعون : 7 ) قيل : الزكاة المفروضة ، وقيل : العارية ، أو الماء ، أو النار ، أو الكلأ ، أو الرفد ، أو المغرفة ، وكلها صحيح ؛ لأن مانع الكل آثم .
وكقوله - تعالى - : ومن الناس من يعبد الله على حرف ( الحج : 11 ) فسره أبو عبيد أي لا يدوم . وقال ثعلب : أي على شك ، وكلاهما قريب ؛ لأن المراد أنه غير ثابت على دينه ، ولا تستقيم البصيرة فيه .
وقيل : في القرآن ثلاث آيات ، في كل منها مائة قول ، قوله : فاذكروني أذكركم ( البقرة : 152 ) ، وإن عدتم عدنا ( الإسراء : 8 ) و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( الرحمن : 60 ) .
فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه ، بل معرفته واجبة ، ولهذا قال - تعالى - : وابتغاء تأويله ( آل عمران : 7 ) .
ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه - سبحانه ، والوقف على قوله - سبحانه - : والراسخون ( آل عمران : 7 ) قال القاضي أبو المعالي : إنه قول الجمهور ، وهو [ ص: 288 ] مذهب ابن مسعود وأبي بن كعب ، وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط . وابن عباس ،
فأما فمحظور لأنه تأويل الجاهلين ، مثل تأويل التأويل المخالف للآية والشرع ، الروافض لقوله - تعالى - : مرج البحرين يلتقيان ( الرحمن : 19 ) أنهما علي وفاطمة رضي الله عنهما يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( الرحمن : 22 ) يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما .
كذلك قالوا في قوله - تعالى - : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ( البقرة : 205 ) إنه معاوية ، وغير ذلك .
قال رحمه الله : وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه لا يحسنون القرآن تلاوة ، ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ، ما عندهم إلا التشنيع عند العوام ، والتكثر عند الطعام ، لنيل ما عندهم من الحطام ، أعفوا أنفسهم من الكد والطلب ، وقلوبهم من الفكر والتعب ؛ لاجتماع الجهال عليهم ، وازدحام ذوي الأغفال لديهم ، لا يكفون الناس من السؤال ، ولا يأنفون عن مجالسة الجهال ، مفتضحون عند السبر والذواق ، زائغون عن العلماء عند التلاق ، يصادرون الناس مصادرة السلطان ، ويختطفون ما عندهم اختطاف السرحان ، يدرسون بالليل صفحا ، ويحكونه بالنهار شرحا ، إذا سئلوا غضبوا ، وإذا نفروا هربوا ، القحة رأس مالهم ، والخرق والطيش خير خصالهم ، يتحلون بما ليس فيهم ، ويتنافسون فيما يرذلهم ، الصيانة عنهم بمعزل ، وهم من الخنى والجهل في جوف منزل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : الإمام أبو القاسم بن حبيب النيسابوري ، وقد قيل : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور
[ ص: 289 ]
من تحلى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الامتحان
وجرى في السباق جرية سكيت نفته الجياد عند الرهان
قال : حكي عن بعضهم أنه سئل عن الحاقة ، فقال : الحاقة جماعة من الناس إذا صاروا في المجلس قالوا : كنا في الحاقة .
وقال آخر : في قوله - تعالى - : ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ( هود : 44 ) قال : أمر الأرض بإخراج الماء ، والسماء بصب الماء ، وكأنه على القلب .
وعن بعضهم في قوله - تعالى - : وإذا الموءودة سئلت ( التكوير : 8 ) قال : إن الله ليسألكم عن الموءودات فيما بينكم في الحياة الدنيا .
وقال آخر في قوله : فليتنافس المتنافسون ( المطففين : 26 ) قال : إنهم تعبوا في الدنيا ، فإذا دخلوا الجنة تنعموا .
قال أبو القاسم : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن محمد الوراق ، يقول : سمعت ، يقول : أفواه الرجال حوانيتها ، وأسنانها صنائعها ، فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين العطار من البيطار ، والتمار من الزمار ، والله المستعان على سوء الزمان ، وقلة الأعوان . يحيى بن معاذ الرازي