الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
ثم قيل : التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال ، والصحيح تغايرهما .

واختلفوا فقيل : التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ، ورد أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظاهر .

قال الراغب : التفسير أعم من التأول ، وأكثر استعماله في الألفاظ ، وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا ، وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل في غيرها ، والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ .

واعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن ، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره ، والتفسير أكثره في الجمل .

والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة ، أو في وجيز مبين بشرح ، كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( البقرة : 43 ) .

وإما في كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها ، كقوله : إنما النسيء زيادة في الكفر ( التوبة : 37 ) وقوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ( البقرة : 189 ) وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا ، نحو الكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق ، وتارة في جحود البارئ خاصة ، والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة ، وفي تصديق الحق تارة .

وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة .

[ ص: 286 ] وقيل : التأويل كشف ما انغلق من المعنى ، ولهذا قال البجلي : التفسير يتعلق بالرواية ، والتأويل يتعلق بالدراية ؛ وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم القائم بذات الرب - تعالى .

قال أبو نصر القشيري : ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع ؛ وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل ، وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه . وما احتمل معنيين أو أكثر ؛ فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق ، وإن وضع لمعان مختلفة ، فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر ، إلا أن يقوم الدليل ، وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا ، أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز ، كلفظة " المس " فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره ، وإن تنافيا ، فقد قال قوم : يحمل على المعنيين ، والوجه عندنا التوقف .

وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم : التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها ، تحتمله الآية ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط .

قالوا : وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير ، وقد رخص فيه أهل العلم ، وذلك مثل قوله - تعالى - : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( البقرة : 195 ) [ ص: 287 ] قيل : هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل ، وقيل : هو الذي يقنط من رحمة الله ، وقيل : الذي يمسك عن النفقة . وقيل : هو الذي ينفق الخبيث من ماله . وقيل : الذي يتصدق بماله كله ، ثم يتكفف الناس ؛ ولكل منه مخرج ومعنى .

ومثل قوله - تعالى - للمندوبين إلى الغزو ، عند قيام النفير : انفروا خفافا وثقالا ( التوبة : 41 ) .

قيل شيوخا وشبابا وقيل أغنياء وفقراء ، وقيل : عزابا ومتأهلين ، وقيل : نشاطا وغير نشاط . وقيل : مرضى وأصحاء ، وكلها سائغ جائز ؛ والآية محمولة عليها ، لأن الشباب والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف ، وضدهم ثقال .

ومثل قوله - تعالى - : ويمنعون الماعون ( الماعون : 7 ) قيل : الزكاة المفروضة ، وقيل : العارية ، أو الماء ، أو النار ، أو الكلأ ، أو الرفد ، أو المغرفة ، وكلها صحيح ؛ لأن مانع الكل آثم .

وكقوله - تعالى - : ومن الناس من يعبد الله على حرف ( الحج : 11 ) فسره أبو عبيد أي لا يدوم . وقال ثعلب : أي على شك ، وكلاهما قريب ؛ لأن المراد أنه غير ثابت على دينه ، ولا تستقيم البصيرة فيه .

وقيل : في القرآن ثلاث آيات ، في كل منها مائة قول ، قوله : فاذكروني أذكركم ( البقرة : 152 ) ، وإن عدتم عدنا ( الإسراء : 8 ) و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( الرحمن : 60 ) .

فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه ، بل معرفته واجبة ، ولهذا قال - تعالى - : وابتغاء تأويله ( آل عمران : 7 ) .

ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه - سبحانه ، والوقف على قوله - سبحانه - : والراسخون ( آل عمران : 7 ) قال القاضي أبو المعالي : إنه قول الجمهور ، وهو [ ص: 288 ] مذهب ابن مسعود وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط .

فأما التأويل المخالف للآية والشرع ، فمحظور لأنه تأويل الجاهلين ، مثل تأويل الروافض لقوله - تعالى - : مرج البحرين يلتقيان ( الرحمن : 19 ) أنهما علي وفاطمة رضي الله عنهما يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( الرحمن : 22 ) يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما .

كذلك قالوا في قوله - تعالى - : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ( البقرة : 205 ) إنه معاوية ، وغير ذلك .

قال الإمام أبو القاسم بن حبيب النيسابوري رحمه الله : وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه لا يحسنون القرآن تلاوة ، ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ، ما عندهم إلا التشنيع عند العوام ، والتكثر عند الطعام ، لنيل ما عندهم من الحطام ، أعفوا أنفسهم من الكد والطلب ، وقلوبهم من الفكر والتعب ؛ لاجتماع الجهال عليهم ، وازدحام ذوي الأغفال لديهم ، لا يكفون الناس من السؤال ، ولا يأنفون عن مجالسة الجهال ، مفتضحون عند السبر والذواق ، زائغون عن العلماء عند التلاق ، يصادرون الناس مصادرة السلطان ، ويختطفون ما عندهم اختطاف السرحان ، يدرسون بالليل صفحا ، ويحكونه بالنهار شرحا ، إذا سئلوا غضبوا ، وإذا نفروا هربوا ، القحة رأس مالهم ، والخرق والطيش خير خصالهم ، يتحلون بما ليس فيهم ، ويتنافسون فيما يرذلهم ، الصيانة عنهم بمعزل ، وهم من الخنى والجهل في جوف منزل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ، وقد قيل :

[ ص: 289 ]

من تحلى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الامتحان


وجرى في السباق جرية سكيت     نفته الجياد عند الرهان

.

قال : حكي عن بعضهم أنه سئل عن الحاقة ، فقال : الحاقة جماعة من الناس إذا صاروا في المجلس قالوا : كنا في الحاقة .

وقال آخر : في قوله - تعالى - : ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ( هود : 44 ) قال : أمر الأرض بإخراج الماء ، والسماء بصب الماء ، وكأنه على القلب .

وعن بعضهم في قوله - تعالى - : وإذا الموءودة سئلت ( التكوير : 8 ) قال : إن الله ليسألكم عن الموءودات فيما بينكم في الحياة الدنيا .

وقال آخر في قوله : فليتنافس المتنافسون ( المطففين : 26 ) قال : إنهم تعبوا في الدنيا ، فإذا دخلوا الجنة تنعموا .

قال أبو القاسم : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن محمد الوراق ، يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي ، يقول : أفواه الرجال حوانيتها ، وأسنانها صنائعها ، فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين العطار من البيطار ، والتمار من الزمار ، والله المستعان على سوء الزمان ، وقلة الأعوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية