الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 309 ] فصل في التكفين ( السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب : إزار ، وقميص ، ولفافة ) لما روي { أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية }ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته ، فكذا بعد مماته . [ ص: 310 - 311 ] ( فإن اقتصروا على ثوبين جاز ، والثوبان إزار ولفافة ) وهذا كفن الكفاية ، لقول أبي بكر رضي الله عنه : اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما ، ولأنه أدنى لباس الأحياء ، والإزار من القرن إلى القدم ، واللفافة كذلك ، والقميص من أصل العنق إلى القدم ( فإذا أرادوا لف الكفن ابتدءوا بجانبه الأيسر فلفوه عليه ، ثم بالأيمن ) كما في حال الحياة ، وبسطه : أن تبسط اللفافة أولا ، ثم يبسط عليها الإزار ، ثم يقمص الميت ويوضع على الإزار ، ثم يعطف الإزار من قبل اليسار ثم من قبل اليمين ، ثم اللفافة كذلك ( وإن خافوا أن ينتشر الكفن عنه عقدوه بخرقة ) صيانة عن الكشف . [ ص: 312 - 313 ]

                                                                                                        ( وتكفن المرأة في خمسة أثواب : درع ، وإزار ، وخمار ، ولفافة ، وخرقة تربط فوق ثدييها ) لحديث أم عطية { أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب }ولأنها تخرج فيها حالة الحياة ، فكذا بعد الممات ، ثم هذا بيان كفن السنة ( وإن اقتصروا على ثلاثة أثواب جاز ) وهي ثوبان وخمار ، وهو كفن الكفاية . ( ويكره أقل من ذلك ، وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد ، إلا في حالة الضرورة ) لأن مصعب بن عمير حين استشهد كفن في ثوب واحد ، وهذا كفن الضرورة ( وتلبس المرأة الدرع أولا ، ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع ، ثم الخمار فوق ذلك تحت الإزار ، ثم الإزار ، ثم اللفافة ) . [ ص: 314 ] قال : ( وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا ) لأنه عليه الصلاة والسلام { أمر بإجمار أكفان ابنته وترا }والإجمار هو التطييب ، فإذا فرغوا منه صلوا عليه ; لأنها فريضة .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        فصل في التكفين الحديث الثالث : روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية } ، قلت : رواه الأئمة الستة في " كتبهم " من حديث عائشة ، قالت : { كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ، من كرسف ، ليس فيها قميص ، ولا عمامة }. انتهى ورواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " ، وزاد فيه : قالت : فأما الحلة فإنها اشتبهت على الناس ; لأنها اشتريت ; ليكفن بها ، فلم يكفن فيها ، وكفن في ثلاثة أثواب ، فأخذ الحلة عبد الله بن أبي بكر ، فقال : أجعلها كفني ، ثم قال : لو رضيها الله لرضيها لرسوله ، فباعها ، وتصدق بثمنها . انتهى .

                                                                                                        والحديث حجة على أصحابنا في عدم القميص ، على أن مالكا يحمله على أنه ليس بمعدود ، بل يحتمل أن يكون الثلاثة الأثواب زيادة على القميص والعمامة ، والشافعي يجعله على ظاهره ، ولأصحابنا حديث أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن ناصح بن عبد الله الكوفي عن سماك عن جابر بن سمرة ، قال : { كفن [ ص: 310 ] النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميص وإزار ولفافة }. انتهى .

                                                                                                        وضعف ناصح بن عبد الله عن النسائي ، ولينه هو ، وقال : هو يكتب حديثه . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود في " سننه " عن زيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس ، قال : { كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميصه الذي مات فيه وحلة نجرانية }انتهى ويزيد بن أبي زياد ضعيف ، قال أبو عبيد : الحلة إزار ورداء ، ولا تكون الحلة إلا من ثوبين . انتهى { حديث آخر } : رواه محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم { أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في حلة يمانية وقميص ، }انتهى .

                                                                                                        وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " ، وأخرج عن الحسن نحوه الأحاديث المخالفة لما تقدم : روى ابن حبان في " صحيحه " من حديث الفضل بن العباس ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثوبين سحوليين }. انتهى .

                                                                                                        وروى أيضا من حديث أبي هريرة { أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثوب نجراني وريطتين }.

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " والبزار في " مسنده " عن حماد بن سلمة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب { أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في سبعة أثواب }. انتهى قال البزار : لا نعلم أحدا تابع ابن عقيل عليه ، ولا يعلم رواه عنه غير حماد بن سلمة . انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن عدي في " الكامل " ، وأعله بابن عقيل ، وضعفه عن ابن معين فقط ، ولينه هو ، وقال : روى عنه جماعة من الثقات ، وهو ممن يكتب حديثه انتهى ورواه ابن حبان في " كتاب الضعفاء " ، وأعله أيضا [ ص: 311 ] بابن عقيل ، وقال : إنه كان رديء الحفظ ، فيأتي بالخبر على غير وجهه فلما كثر ذلك في رواياته استحق المجانبة ، ولكنه كان من سادات الناس .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن قيس بن الربيع عن شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قطيفة حمراء }. انتهى وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة ابن عدي ، وقال : قيس بن الربيع لا يحتج به ، والصحيح ما رواه مسلم عن غندر ، ووكيع ويحيى بن سعيد عن شعبة به ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في قبره قطيفة حمراء }. انتهى قال ابن القطان في " كتابه " : أخاف أن يكون تصحف على بعض رواة " كتاب الكامل " لفظ : دفن بكفن . انتهى كلامه

                                                                                                        قوله : عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما ، قلت : رواه الإمام أحمد بن حنبل في " كتاب الزهد " حدثنا يزيد بن هارون ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله اليمني مولى الزبير بن العوام عن عائشة ، قالت : لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه تمثلت بهذا البيت :

                                                                                                        أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

                                                                                                        فقال لها : يا بنية : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ، ثم قال : انظروا ثوبي هذين ، فاغسلوهما ، ثم كفنوني فيهما ، فإن الحي أحوج إلى الجديد منهما . انتهى ثم قال في " كتاب الزهد " : حدثنا عبد الله [ ص: 312 ] بن أحمد بن حنبل ثنا هارون بن معروف ثنا ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي ، قال : لما حضرت أبا بكر الوفاة قال لعائشة رضي الله عنها: اغسلوا ثوبي هذين ثم كفنوني فيهما ، فإنما أبوك أحد رجلين : إما مكسو ، أحسن الكسوة أو مسلوب أسوأ السلب ، وليس هذا من رواية أحمد .

                                                                                                        طريق آخر : رواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قالت قال أبو بكر لثوبيه اللذين كان يمرض فيهما اغسلوهما ، وكفنوني فيهما ، فقالت عائشة : ألا نشتري لك جديدا ، قال : لا ، إن الحي أحوج إلى الجديد من الميت . انتهى . أخبرنا ابن جريج عن عطاء ، قال : سمعت عبيد بن عمير : يقول : أمر أبو بكر : إما عائشة : وإما أسماء بنت عميس ، بأن تغسل ثوبين كان يمرض فيهما ، ويكفن فيهما ، فقالت عائشة : أو ثيابا جددا ؟ ، قال : الأحياء أحق بذلك . انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : رواه ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا الفضل بن دكين ثنا سيف بن أبي سليمان ، قال : سمعت القاسم بن محمد ، قال : قال أبو بكر حين حضره الموت : كفنوني في ثوبي هذين اللذين كنت أصلي فيهما ، واغسلوهما ، فإنهما للمهل ، والتراب . انتهى أخبرنا الواقدي ثنا معمر بسند عبد الرزاق ومتنه وذكره محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " بلاغا ، فقال : بلغنا عن أبي بكر الصديق ، أنه قال : اغسلوا ثوبي هذين ، وكفنوني فيهما .

                                                                                                        وفي " البخاري " خلاف هذا ، أخرج عن عائشة أن أبا بكر قال لها : في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : في ثلاثة أثواب بيض ، ليس فيها قميص ، ولا عمامة ، قال : في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : يوم الاثنين ، قال : فأي يوم هذا ؟ قالت : يوم الاثنين ، قال : أرجو فيما بيني وبين الليل ، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه ، به ردع من زعفران ، فقال : اغسلوا ثوبي هذا ، وزيدوا عليه ثوبين ، فكفنوني فيهما ، قالت : إن هذا خلق ، قال : إن الحي أحق بالجديد من الميت ، إنما هو للمهلة ، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ، ودفن قبل أن يصبح . انتهى قال [ ص: 313 ] النووي : الردع " بالمهملات " الأثر والمهلة " بضم الميم وفتحها وكسرها " صديد الميت . انتهى ذكره عبد الحق في " التعاليق " .

                                                                                                        ومن أحاديث الباب : " الذي وقصته راحلته " ، أخرجه الأئمة الستة عن ابن عباس ، { وكفنوه في ثوبين } ، وفي لفظ : " في ثوبيه " الحديث الرابع : في حديث أم عطية { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب } ، قلت : غريب من حديث أم عطية ، وأخرج أبو داود في " سننه " عن محمد بن إسحاق حدثني نوح بن حكيم الثقفي عن رجل من بني عروة بن مسعود الثقفي ، يقال له داود : ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن { ليلى بنت قانف الثقفية ، قالت : كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها ، فكان أول ما أعطانا : الحقاء ، ثم الدرع ، ثم الخمار ، ثم الملحفة ، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر ، قالت : ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب ، معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا }. انتهى قال المنذري : فيه محمد بن إسحاق ، وفيه من ليس بمشهور ، قال : والحقا " بكسر الحاء " مقصور ، ولعله لغة في " الحقو " انتهى وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى .

                                                                                                        الحديث الخامس : روي أن مصعب بن عمير حين استشهد ، كفن في ثوب واحد [ ص: 314 ] قلت : أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه عن { خباب بن الأرت ، قال : هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، نريد وجه الله ، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مضى ، لم يأخذ من أجره شيئا : منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد ، وترك نمرة ، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه ، بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ، ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر }. انتهى أخرجه الترمذي في " المناقب " ، والباقون في " الجنائز " .

                                                                                                        الحديث السادس : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإجمار أكفان ابنته وترا } ، قلت : غريب ، وروى ابن حبان في " صحيحه " في النوع السابع والثمانين ، من القسم الأول والحاكم في " المستدرك " ، وقال : صحيح على شرط مسلم عن قطية بن عبد العزيز عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { إذا أجمرتم الميت فأجمروا ثلاثا }انتهى وفي لفظ لابن حبان : فأوتروا ، وفي لفظ للبيهقي : جمروا كفن الميت ثلاثا ، قال النووي : وسنده صحيح ، ورواه البيهقي عن يحيى بن معين ، أنه قال : لم يرفعه غير يحيى بن آدم ، ولا أظنه إلا غلطا ، قال النووي : وكأن ابن معين بناه على قول بعض المحدثين : إن الحديث إذا روي مرفوعا وموقوفا ، فالحكم للوقف ، والصحيح أن الحكم للرفع ; لأنه زيادة ثقة ، ولا شك في ثقة يحيى بن آدم . انتهى كلامه .

                                                                                                        وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن فاطمة عن أسماء ، أنها قالت عند موتها : إذا أنا مت فاغسلوني ، وكفنوني ، وأجمروا ثيابي . انتهى .

                                                                                                        ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر أو ابن جريج عن هشام عن أبيه عن أسماء ، فذكره ، ورواه مالك في " الموطأ " عن هشام به ، وزاد : وحنطوني ، ولا تتبعوني بنار . انتهى وهذا سند صحيح .




                                                                                                        الخدمات العلمية