[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النوع الرابع
في بيان
nindex.php?page=treesubj&link=21860قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .
والدليل على ذلك أمور :
أحدها : النص الصريح الدال على أن
nindex.php?page=treesubj&link=29531العباد خلقوا للتعبد لله ، والدخول
[ ص: 290 ] تحت أمره ونهيه ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=57ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] .
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ النساء : 36 ] .
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وبتفاصيلها على العموم ، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال ، والانقياد إلى أحكامه على كل حال ، وهو معنى التعبد لله .
والثاني : ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله ، وذم من أعرض عن الله ، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات ، والعذاب الآجل في الدار الآخرة ، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة ، والشهوات الزائلة ; فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق ، وعده قسيما له ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .
[ ص: 291 ] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=37فأما من طغى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=38وآثر الحياة الدنيا nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=39فإن الجحيم هي المأوى [ النازعات : 37 - 39 ] .
وقال في قسيمه :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=40وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=41فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=3وما ينطق عن الهوى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=4إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] .
فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك ; فهما متضادان ، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=23أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=16الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ محمد : 16 ] . ،
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=14أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .
وتأمل ; فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ; أنه قال : " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه " . فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن
[ ص: 292 ] اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى .
والثالث : ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى ، والمشي مع الأغراض ; لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك ، الذي هو مضاد لتلك المصالح ، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته ، وسار حيث سارت به ، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها ، أو كان له شريعة درست ، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي ، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم ، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا ، وهي التي يسمونها السياسة المدنية ; فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة ، وهو أظهر من أن يستدل عليه .
وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم ; إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة ، أما الوجوب والتحريم ; فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار ; إذ يقال له : " افعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، و " لا تفعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق ، وهوى باعث على
[ ص: 293 ] مقتضى الأمر أو النهي ، فبالعرض لا بالأصل ، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - ; فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض ، وقد لا يكون ؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار ، بل في رفعه مثلا ، كيف يقال : إنه داخل تحت اختياره ؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا ; حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه ، كما يطرأ للمتنازعين في حق .
وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول ، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس ، فيحب الآن ما يكره غدا ، وبالعكس ، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق ، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى ; فسبحان الذي أنزل في كتابه :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .
فإذا ; إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف ، إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي ، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله .
فإن قيل : وضع الشرائع ; إما أن يكون عبثا ، أو لحكمة ; فالأول باطل باتفاق ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .
[ ص: 294 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .
وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ; لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام ، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد ، وذلك مقتضى أغراضهم ، لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف ; فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ؟
وأيضا ; فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد ، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون ، أو وجوبا على ما يزعمه
المعتزلة ، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا ; كان ما ينافيه باطلا .
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ; فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع ، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ; ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس ، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك ، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه ، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع ، وهذا هو المراد ، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض ، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في
[ ص: 295 ] العاجل والآجل ، فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع ، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم ; لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ; لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة ، وذلك ما أردنا هاهنا .
[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النَّوْعُ الرَّابِعُ
فِي بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=21860قَصْدِ الشَّارِعِ فِي دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ ; حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا ، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : النَّصُّ الصَّرِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29531الْعِبَادَ خُلِقُوا لِلتَّعَبُّدِ لِلَّهِ ، وَالدُّخُولِ
[ ص: 290 ] تَحْتَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=57مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [ الذَّارِيَاتِ : 56 - 57 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [ طه : 132 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْبَقَرَةِ : 21 ] .
ثُمَّ شَرَحَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي تَفَاصِيلَ السُّورَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ الْبَقَرَةِ : 177 ] .
وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ مَا ذُكِرَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : 36 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالْعِبَادِةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَبِتَفَاصِيلِهَا عَلَى الْعُمُومِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، وَالِانْقِيَادِ إِلَى أَحْكَامِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ لِلَّهِ .
وَالثَّانِي : مَا دَلَّ عَلَى ذَمِّ مُخَالَفَةِ هَذَا الْقَصْدِ مِنَ النَّهْيِ أَوَّلًا عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ، وَذَمِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ ، وَإِيعَادِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُخَالَفَاتِ ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالِانْقِيَادُ إِلَى طَاعَةِ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ ، وَالشَّهَوَاتِ الزَّائِلَةِ ; فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُضَادًّا لِلْحَقِّ ، وَعَدَّهُ قَسِيمًا لَهُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [ ص : 26 ] .
[ ص: 291 ] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=37فَأَمَّا مَنْ طَغَى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=38وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=39فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [ النَّازِعَاتِ : 37 - 39 ] .
وَقَالَ فِي قَسِيمِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=40وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=41فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النَّازِعَاتِ : 40 - 41 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=3وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=4إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : 3 - 4 ] .
فَقَدْ حَصَرَ الْأَمْرَ فِي شَيْئَيْنِ : الْوَحْيِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ ، وَالْهَوَى ، فَلَا ثَالِثَ لَهُمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَهُمَا مُتَضَادَّانِ ، وَحِينَ تَعَيَّنَ الْحَقُّ فِي الْوَحْيِ تَوَجَّهَ لِلْهَوَى ضِدَّهُ ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مُضَادٌّ لِلْحَقِّ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=23أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [ الْجَاثِيَةِ : 23 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [ الْمُؤْمِنُونَ : 71 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=16الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [ مُحَمَّدٍ : 16 ] . ،
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=14أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [ مُحَمَّدٍ : 14 ] .
وَتَأَمَّلْ ; فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْهَوَى ; فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ وَلِمُتَّبِعِيهِ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ; أَنَّهُ قَالَ : " مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذَمَّهُ " . فَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْخُرُوجَ عَنْ
[ ص: 292 ] اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالدُّخُولَ تَحْتَ التَّعَبُّدِ لِلْمَوْلَى .
وَالثَّالِثُ : مَا عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَالْمَشْيِ مَعَ الْأَغْرَاضِ ; لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّهَارُجِ وَالتَّقَاتُلِ وَالْهَلَاكِ ، الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ مَنِ اتَّبَعَ شَهَوَاتِهِ ، وَسَارَ حَيْثُ سَارَتْ بِهِ ، حَتَّى إِنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَا شَرِيعَةَ لَهُ يَتْبَعُهَا ، أَوْ كَانَ لَهُ شَرِيعَةٌ دَرَسَتْ ، كَانُوا يَقْتَضُونَ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ بِكَفِّ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ ، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ إِلَّا لِصِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ ، وَاطِّرَادُ الْعَوَائِدِ بِاقْتِضَائِهِ مَا أَرَادُوا مِنْ إِقَامَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّيَاسَةَ الْمَدَنِيَّةَ ; فَهَذَا أَمُرُّ قَدْ تَوَارَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى مُقْتَضَى تَشَهِّي الْعِبَادِ وَأَغْرَاضِهِمْ ; إِذْ لَا تَخْلُو أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَمْسَةِ ، أَمَّا الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ ; فَظَاهِرٌ مُصَادَمَتُهَا لِمُقْتَضَى الِاسْتِرْسَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ ; إِذْ يُقَالُ لَهُ : " افْعَلْ كَذَا " كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا ، وَ " لَا تَفْعَلْ كَذَا " كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا ، فَإِنِ اتَّفَقَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ غَرَضٌ مُوَافِقٌ ، وَهَوًى بَاعِثٌ عَلَى
[ ص: 293 ] مُقْتَضَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ ، فَبِالْعَرْضِ لَا بِالْأَصْلِ ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الدُّخُولَ تَحْتَ خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ - ; فَإِنَّمَا دَخَلَتْ بِإِدْخَالِ الشَّارِعِ لَهَا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَغَرَضٌ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ ؟ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ ، بَلْ فِي رَفْعِهِ مَثَلًا ، كَيْفَ يُقَالُ : إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ ؟ فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَوَدُّ لَوْ كَانَ الْمُبَاحُ الْفُلَانِيُّ مَمْنُوعًا ; حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وُكِّلَ إِلَيْهِ مَثَلًا تَشْرِيعُهُ لِحَرَّمَهُ ، كَمَا يَطْرَأُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي حَقٍّ .
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اخْتِيَارَهُ وَهَوَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ يَوَدُّ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ جَعْلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَوْجَبَهُ ، ثُمَّ قَدْ يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْعَكْسِ ، فَيُحِبُّ الْآنَ مَا يَكْرَهُ غَدًا ، وَبِالْعَكْسِ ، فَلَا يُسْتَتَبُّ فِي قَضِيَّةِ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَوَارَدُ الْأَغْرَاضُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَيَنْخَرِمُ النِّظَامُ بِسَبَبِ فَرْطِ اتِّبَاعِ الْأَغْرَاضِ وَالْهَوَى ; فَسُبْحَانَ الَّذِي أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [ الْمُؤْمِنُونَ : 71 ] .
فَإِذًا ; إِبَاحَةُ الْمُبَاحِ مَثَلًا لَا تُوجِبُ دُخُولَهُ بِإِطْلَاقٍ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَضَاءً مِنَ الشَّارِعِ ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ تَابِعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ ، وَغَرَضُهُ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاسْتِرْسَالِ الطَّبِيعِيِّ ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَضْعُ الشَّرَائِعِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا ، أَوْ لِحِكْمَةٍ ; فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [ الْمُؤْمِنُونَ : 115 ] .
[ ص: 294 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ ص : 27 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [ الدُّخَانِ : 38 - 39 ] .
وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ ، فَالْمَصْلَحَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعِبَادِ ، وَرُجُوعُهَا إِلَى اللَّهِ مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ غَنِيٌّ وَيَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمَصَالِحِ إِلَيْهِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا رُجُوعُهَا إِلَى الْعِبَادِ ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى أَغْرَاضِهِمْ ، لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ وَمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ ، وَالشَّرِيعَةُ تَكَفَّلَتْ لَهُمْ بِهَذَا الْمَطْلَبِ فِي ضِمْنِ التَّكْلِيفِ ; فَكَيْفَ يُنْفَى أَنْ تُوضَعَ الشَّرِيعَةُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِ الْعِبَادِ وَدَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ ؟
وَأَيْضًا ; فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ عَلَى وِفْقِ أَغْرَاضِ الْعِبَادِ ، وَثَبَتَتْ لَهُمْ حُظُوظُهُمْ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُحَقِّقُونَ ، أَوْ وُجُوبًا عَلَى مَا يَزْعُمُهُ
الْمُعْتَزِلَةُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ حَقًّا ; كَانَ مَا يُنَافِيهِ بَاطِلًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ وَضْعَ الشَّرِيعَةِ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ; فَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَمْرِ الشَّارِعِ ، وَعَلَى الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ لَا عَلَى مُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ ; وَلِذَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ ثَقِيلَةً عَلَى النُّفُوسِ ، وَالْحِسُّ وَالْعَادَةُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ ، فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مُخْرِجَةٌ لَهُ عَنْ دَوَاعِي طَبْعِهِ وَاسْتِرْسَالِ أَغْرَاضِهِ ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ تَحْتِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ ، وَهُوَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ ، أَمَّا أَنَّ مَصَالِحَ التَّكْلِيفِ عَائِدَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي
[ ص: 295 ] الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ ، فَصَحِيحٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَيْلُهُ لَهَا خَارِجًا عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لَهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهَا إِيَّاهُ الشَّرْعُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَبِهِ يُتَبَيَّنُ أَنَّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ فِي ثُبُوتِ الْحَظِّ وَالْغَرَضِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ ; لَا مِنْ حَيْثُ اقْتَضَاهُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا هَاهُنَا .