فصل
وإن كان
nindex.php?page=treesubj&link=30515الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا ; فهو قسمان :
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة ، وحسن الظن عند الناس ، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله .
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا ، وهذا ضربان :
أحدهما : يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل .
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك ; فهذه ثلاثة أقسام .
[ ص: 361 ] أحدها : يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة .
فإن كان هذا القصد متبوعا ; فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير ، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله ، وهذا بين .
وإن كان تابعا ; فهو محل نظر واجتهاد ، واختلف العلماء في هذا الأصل ; فوقع في العتبية في
nindex.php?page=treesubj&link=30515الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ، ويحب أن يلقى في طريق المسجد ، ويكره أن يلقى في طريق غيره ; فكره
ربيعة هذا ، وعده
مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان ; أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير ; فيقول له : إنك لمراء وليس كذلك ، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=39وألقيت عليك محبة مني [ طه : 39 ] .
وقال عن
إبراهيم عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=84واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337563وقع في نفسي أنها النخلة ، فأردت أن أقولها ، فقال عمر : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا .
nindex.php?page=treesubj&link=18467وطلب العلم عبادة ، قال
ابن العربي : سألت
شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا [ البقرة : 160 ]
[ ص: 362 ] ما بينوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات . قلت : ويلزم ذلك ؟ قال : نعم ; لتثبت أمانته ، وتصح إمامته ، وتقبل شهادته " .
قال
ابن العربي : ويقتدي به غيره ; فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة .
والثاني : ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه ، مع الغفلة عن مراءاة الغير ، وله أمثلة :
أحدها : الصلاة في المسجد للأنس بالجيران ، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال .
والثاني : الصوم توفيرا للمال ، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه ، أو احتماء لألم يجده ، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له .
والثالث : الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس .
والرابع : الحج لرؤية البلاد ، والاستراحة من الأنكاد ، أو للتجارة ، أو لتبرمه بأهله وولده ، أو إلحاح الفقر .
[ ص: 363 ] والخامس : الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال .
والسادس : تعلم العلم ليحتمي به عن الظلم .
والسابع : الوضوء تبردا .
والثامن : الاعتكاف فرارا من الكراء .
والتاسع : عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك .
والعاشر : تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث .
والحادي عشر : الحج ماشيا ليتوفر له الكراء .
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة ، وقد التزم
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص ، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض ، وأما
ابن العربي ، فذهب إلى خلاف ذلك ، وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ;
فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات ، وظاهر
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا ، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وذلك بناء على مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=10697الصلاة في الدار المغصوبة ، والخلاف فيها واقع ، ورأي
أصبغ فيها البطلان ، فإذا كان كذلك ; اتجه
[ ص: 364 ] النظران ، وظهر مغزى المذهبين .
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه ; لما جاء
[ ص: 365 ] [ ص: 366 ] من الأدلة على ذلك ; ففي القرآن الكريم :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] ، يعني في مواسم الحج .
وقال
ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة : إنه دأب المرسلين ; فقد قال الخليل عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=99إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ الصافات : 99 ] ، وقال الكليم :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=21ففررت منكم لما خفتكم [ الشعراء : 21 ] ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت قرة عينه في الصلاة ; فكان يستريح إليها
[ ص: 367 ] من تعب الدنيا ، وكان فيها نعيمه ولذته ، أفيقال : إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها ؟ كلا ، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها .
وفي الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337564يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج ; فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ; فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12996ابن بشكوال عن
أبي علي الحداد ; قال : حضرت
القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى
الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه ، على ما لم يكن يعهد من نفسه ، وسأله عن الدواء ، فقال : اسرد الصوم تصلح معدتك . فقال له : يا
أبا عبد الله ! على غير هذا دلني ، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا ، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها . قال
أبو علي : وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام - يعني : هذا الحديث - وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس ، وأحسبني ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس ; فسلم للحديث .
[ ص: 368 ] وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب ، فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد .
[ ص: 369 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة ; كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث ، وما لم يعمل به
مالك فقد عمل به غيره ، وكالتخفيف لأجل
[ ص: 370 ] الشيخ والضعيف وذي الحاجة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337565إني لأسمع بكاء [ ص: 371 ] الصبي " الحديث .
وكرد السلام في الصلاة ، وحكاية المؤذن ، وما أشبه ذلك مما هو
[ ص: 372 ] عمل خارج عن حقيقة الصلاة ، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ، ومع ذلك ; فلا يقدح في حقيقة إخلاصها .
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواه ; لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى ، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه ، وانتظار الصلاة ، والكف عن إذاية الناس ، واستغفار الملائكة له ، فإن كل قصد منها شاب غيره ، وأخرجه عن إخلاصه عن غيره ، وهذا غير صحيح باتفاق ، بل كل قصد منها صحيح في نفسه ، وإن كان العمل واحدا ; لأن الجميع محمود شرعا ، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه ، لاشتراكهما في الإذن الشرعي ، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها ، كالحديث ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، والرياء ، وما أشبه ذلك ، أما ما لا منافاة فيه ، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة ؟ هذا لا ينبغي أن يقال ، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان
[ ص: 373 ] الحكم للغالب ، فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد .
والثالث : ما يرجع إلى المراءات ، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه ، فهو
nindex.php?page=treesubj&link=18692الرياء المذموم شرعا ، وأدهى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا ، وحكمه معلوم ; فلا فائدة في الإطالة فيه .
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=30515الْحَظُّ الْمَطْلُوبُ بِالْعِبَادَاتِ مَا فِي الدُّنْيَا ; فَهُوَ قِسْمَانِ :
قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى صَلَاحِ الْهَيْئَةِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ ، وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ لِلْعَامِلِ بِعَمَلِهِ .
وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى نَيْلِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا ، وَهَذَا ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاءَاةِ النَّاسِ بِالْعَمَلِ .
وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرَاءَاةِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا أَوْ جَاهًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ; فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ .
[ ص: 361 ] أَحَدُهَا : يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ مَتْبُوعًا ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ رِيَاءٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبْعَثُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ قَصْدُ الْحَمْدِ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ الْخَيْرُ ، وَيَنْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ كَوْنُهُ يُصَلِّي فَرْضَهُ أَوْ نَفْلَهُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ .
وَإِنْ كَانَ تَابِعًا ; فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْأَصْلِ ; فَوَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30515الرَّجُلِ الَّذِي يُصَلِّي لِلَّهِ ثُمَّ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ ، وَيُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ ; فَكَرِهَ
رَبِيعَةُ هَذَا ، وَعَدَّهُ
مَالِكٌ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ الْعَارِضَةِ لِلْإِنْسَانِ ; أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ إِذْ سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ ; فَيَقُولُ لَهُ : إِنَّكَ لَمُرَاءٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=39وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [ طه : 39 ] .
وَقَالَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=84وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 84 ] . وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337563وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : لِأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا .
nindex.php?page=treesubj&link=18467وَطَلَبُ الْعِلْمِ عِبَادَةٌ ، قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : سَأَلَتُ
شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [ الْبَقَرَةِ : 160 ]
[ ص: 362 ] مَا بَيَّنُوا ؟ قَالَ : أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ . قُلْتُ : وَيَلْزَمُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ; لِتَثْبُتَ أَمَانَتَهُ ، وَتَصِحَّ إِمَامَتُهُ ، وَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ " .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَيَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ ; فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى
nindex.php?page=showalam&ids=14847وَالْغَزَالِيُ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا مِمَّا لَا تَتَخَلَّصُ فِيهِ الْعِبَادَةُ .
وَالثَّانِي : مَا يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاءَاةِ الْغَيْرِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ :
أَحَدُهَا : الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْأُنْسِ بِالْجِيرَانِ ، أَوِ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ لِمُرَاقَبَةٍ أَوْ مُرَاصَدَةٍ أَوْ مُطَالَعَةِ أَحْوَالٍ .
وَالثَّانِي : الصَّوْمُ تَوْفِيرًا لِلْمَالِ ، أَوِ اسْتِرَاحَةً مِنْ عَمَلِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ ، أَوِ احْتِمَاءً لِأَلَمٍ يَجِدُهُ ، أَوْ مَرْضٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ بِطْنَةٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ .
وَالثَّالِثُ : الصَّدَقَةُ لِلَذَّةِ السَّخَاءِ وَالتَّفَضُّلِ عَلَى النَّاسِ .
وَالرَّابِعُ : الْحَجُّ لِرُؤْيَةِ الْبِلَادِ ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَنْكَادِ ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ لِتَبَرُّمِهِ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، أَوْ إِلْحَاحِ الْفَقْرِ .
[ ص: 363 ] وَالْخَامِسُ : الْهِجْرَةُ مَخَافَةُ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْأَهْلِ أَوِ الْمَالِ .
وَالسَّادِسُ : تَعَلُّمُ الْعِلْمِ لِيَحْتَمِيَ بِهِ عَنِ الظُّلْمِ .
وَالسَّابِعُ : الْوُضُوءُ تَبَرُّدًا .
وَالثَّامِنُ : الِاعْتِكَافُ فِرَارًا مِنَ الْكِرَاءِ .
وَالتَّاسِعُ : عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ لِيُفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ .
وَالْعَاشِرُ : تَعْلِيمُ الْعِلْمِ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ كَرْبِ الصَّمْتِ وَيَتَفَرَّجَ بِلَذَّةِ الْحَدِيثَ .
وَالْحَادِي عَشَرَ : الْحَجُّ مَاشِيًا لِيَتَوَفَّرَ لَهُ الْكِرَاءُ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ ، وَقَدِ الْتَزَمَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ أَخَفَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ ، وَأَمَّا
ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَكَأَنَّ مَجَالَ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا ;
فَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهُ الِانْفِكَاكِ فَيُصَحِّحُ الْعِبَادَاتِ ، وَظَاهِرُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيِّ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ وُجُودًا ، كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=10697الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا وَاقِعٌ ، وَرَأْيُ
أَصْبَغَ فِيهَا الْبُطْلَانُ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; اتَّجَهَ
[ ص: 364 ] النَّظَرَانِ ، وَظَهَرَ مَغْزَى الْمَذْهَبَيْنِ .
عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ ; لِمَا جَاءَ
[ ص: 365 ] [ ص: 366 ] مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ ; فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 198 ] ، يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
وَقَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفِرَارِ مِنَ الْأَنْكَادِ بِالْحَجِّ أَوْ الْهِجْرَةِ : إِنَّهُ دَأَبُ الْمُرْسَلِينَ ; فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=99إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [ الصَّافَّاتِ : 99 ] ، وَقَالَ الْكَلِيمُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=21فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [ الشُّعَرَاءِ : 21 ] ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ ; فَكَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا
[ ص: 367 ] مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا ، وَكَانَ فِيهَا نَعِيمُهُ وَلَذَّتُهُ ، أَفَيُقَالُ : إِنَّ دُخُولَهُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَادِحٌ فِيهَا ؟ كَلَّا ، بَلْ هُوَ كَمَالٌ فِيهَا وَبَاعِثٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِيهَا .
وَفِي الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337564يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ; فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ; فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ .
ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=12996ابْنُ بَشْكُوَالَ عَنْ
أَبِي عَلِيٍّ الْحَدَّادِ ; قَالَ : حَضَرْتُ
الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ بْنَ زَرْبٍ شَكَا إِلَى
التَّرْجِيلِيِّ الْمُتَطَبِّبِ ضَعْفَ مَعِدَتِهِ وَضَعْفَ هَضْمِهِ ، عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَعْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَسَأَلَهُ عَنِ الدَّوَاءِ ، فَقَالَ : اسْرُدْ الصَّوْمَ تَصْلُحْ مَعِدَتُكَ . فَقَالَ لَهُ : يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ! عَلَى غَيْرِ هَذَا دُلَّنِي ، مَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَ نَفْسِيَ بِالصَّوْمِ إِلَّا لِوَجْهِهِ خَالِصًا ، وَلِي عَادَةٌ فِي الصَّوْمِ الْاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ لَا أَنْقُلُ نَفْسِي عَنْهَا . قَالَ
أَبُو عَلِيٌّ : وَذَكَرْتُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَدِيثَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي : هَذَا الْحَدِيثَ - وَجَبُنْتُ عَنْ إِيرَادِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَأَحْسَبُنِي ذَاكَرْتُهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ ; فَسَلَّمَ لِلْحَدِيثِ .
[ ص: 368 ] وَقَدْ بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلًا لِيَكُونَ رَصَدًا فِي شِعْبٍ ، فَقَامَ يُصَلَّى وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِالْإِقَامَةِ فِي الشِّعْبِ إِلَّا الْحِرَاسَةَ وَالرَّصْدِ .
[ ص: 369 ] وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا يُرَاعِيهِ الْإِمَامُ فِي صِلَاتِهِ مِنْ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ ; كَانْتِظَارِ الدَّاخِلِ لِيُدْرِكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ
مَالِكٌ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ غَيْرُهُ ، وَكَالتَّخْفِيفِ لِأَجَلِ
[ ص: 370 ] الشَّيْخِ وَالضَّعِيفِ وَذِي الْحَاجَةِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337565إِنِّي لِأَسْمَعُ بُكَاءَ [ ص: 371 ] الصَّبِيِّ " الْحَدِيثَ .
وَكَرَدِّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ
[ ص: 372 ] عَمَلٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ ، مَفْعُولٌ فِيهَا مَقْصُودٌ يُشْرِكُ قَصْدَ الصَّلَاةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ ; فَلَا يَقْدَحُ فِي حَقِيقَةِ إِخْلَاصِهَا .
بَلْ لَوْ كَانَ شَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ يَقْدَحَ فِي قَصْدِهَا قَصْدُ شَيْءٍ آخَرَ سِوَاهُ ; لَقَدَحَ فِيهَا مُشَارَكَةُ الْقَصْدِ إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى ، كَمَا إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ قَاصِدًا لِلتَّنَفُّلِ فِيهِ ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَالْكَفِّ عَنْ إِذَايَةِ النَّاسِ ، وَاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ ، فَإِنَّ كُلَّ قَصْدٍ مِنْهَا شَابَ غَيْرَهُ ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ إِخْلَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ ، بَلْ كُلُّ قَصْدٍ مِنْهَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَحْمُودٌ شَرْعًا ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ غَيْرَ عِبَادَةٍ مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ ، فَحُظُوظُ النُّفُوسِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنْسَانِ لَا يُمْنَعُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا مَا كَانَ بِوَضْعِهِ مُنَافِيًا لَهَا ، كَالْحَدِيثِ ، وَالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالنَّوْمِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، أَمَّا مَا لَا مُنَافَاةَ فِيهِ ، فَكَيْفَ يَقْدَحُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ ؟ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ إِفْرَادَ قَصْدِ الْعِبَادَةِ عَنْ قَصْدِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْلَى ، وَلِذَلِكَ إِذَا غَلَبَ قَصْدُ الدُّنْيَا عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ كَانَ
[ ص: 373 ] الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ ، فَلَمْ يُعْتَدْ بِالْعِبَادَةِ فَإِنْ غَلَبَ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَالْحُكْمُ لَهُ ، وَيَقَعُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَسَائِلِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلْمُجْتَهِدِ .
وَالثَّالِثُ : مَا يُرْجَعُ إِلَى الْمُرَاءَاتِ ، فَأَصْلُ هَذَا إِذَا قُصِدَ بِهِ نَيْلُ الْمَالِ أَوِ الْجَاهِ ، فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=18692الرِّيَاءُ الْمَذْمُومُ شَرْعًا ، وَأَدْهَى مَا فِي ذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا بِقَصْدِ إِحْرَازِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَيَلِي ذَلِكَ عَمَلُ الْمُرَائِينَ الْعَامِلِينَ بِقَصْدِ نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا ، وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ ; فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِطَالَةِ فِيهِ .