فصل
ويقتضي هذا النظر ، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف [ ص: 543 ] مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر ، أو النهي ، أو من حيث ناقضت التقرب ، أو من حيث ناقضت وضع المصالح ، أو من حيث كانت كفرانا للنعمة . التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به ، أو فعل المنهي عنه
ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ، ومذهبهم الأخذ بالعزائم .
وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه ، وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات ، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة ، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة .
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : . يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة
[ ص: 544 ] وقوله : الحديث ، ويشمله عموم قوله تعالى : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ النور : 31 ] .
ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا ، فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا ، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال والسابقين ، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين ، وقال تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين [ ص: 545 ] الآية [ الواقعة : 88 - 89 ] ، فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ، ومن لم يعمر أنفاسه بطالا .
وهذا مجال لا مقال فيه ، وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة [ ص: 546 ] حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا .
فإن قيل : هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال .
وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها .
فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق ، وإنما هو إثبات راجح ، وأرجح ، وهذا موجود .
وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية ، وقال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .
وقال : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .
ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة ، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض [ ص: 547 ] المراتب مع إمكان الرقي ، وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال ، كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين ، وما أشبه ذلك .
ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار ، وقال : الأنصار خير قال : يا رسول الله خير دور سعد بن عبادة الأنصار فجعلنا آخرا ، فقال : أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار ؟ . في كل دور
وفي حديث آخر : . قد فضلكم على كثير
فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال ، وإن كان لها مراتب أيضا ، فلا تعارض بينهما والله أعلم .
[ ص: 548 ] وقد يقال : إن قول من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى ، وهو ظاهر فيه والله أعلم .