الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول : قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص ، وما ذكر معه قليل ، وأن ما عد منه غير معدود منه ، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة .

              وأما مسائل الخلاف ، وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها ، وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم [ ص: 319 ] يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه ، وأشباه ذلك .

              وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم ، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها ، وهو ظاهر القرآن ; لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها ، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها ، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك ، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ، ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر ، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها [ ص: 320 ] بهذا الاعتبار ، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي ، وهو الثاني ، أو إلى التشابه الثالث .

              ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه ، وما حصل له من علم الشريعة ، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل ; لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك ، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع ، وإن وقع الخلاف في مسائلها ، ومعترف بأن قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماعا على أن المتشابه في الشريعة قليل : وإن اعترفوا بكثرة الخلاف .

              وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت ، وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا ، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة ، وإلى [ ص: 321 ] ذلك ، فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق ، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف ، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ، ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها - دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ، ومن يليهم من غيرهم - ، بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، ومن قبلهم ، أو بعدهم وأمثالهم ، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف .

              ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا ، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى ، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده ، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل ، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية