[ ص: 84 ] فصل
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار ، أو لغرض ذلك القريب ، وذلك الصديق . كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال; اتباعا لغرضه وشهوته
ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة ، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية ، وفيما يتعلق به ذلك .
فأما ما لا يتعلق به فصل قضية ، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته; ففيه من المعايب ما تقدم ، وحكى عياض في " المدارك " : قال : كنت عند موسى بن معاوية البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان ; فقال له بهلول : ما أقدمك ؟ قال : نازلة ، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق [ ص: 85 ] ثلاثا ما أخفيته ، قال له البهلول : مالك يقول : إنه يحنث في زوجته ، فقال السائل : وأنا قد سمعته يقول ، وإنما أردت غير هذا ، فقال : ما عندي غير ما تسمع ، قال : فتردد إليه ثلاثا ، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول ، فلما كان في الثالثة أو الرابعة; قال : يا ابن فلان ! ما أنصفتم الناس ، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم : قال مالك ، قال مالك; فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص ، الحسن يقول : لا حنث عليه في يمينه ، فقال السائل : الله أكبر ، قلدها الحسن ، أو كما قال .
وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين; فالأمر أشد ، وفي " الموازية " كتب : لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك ، قال عمر بن الخطاب : لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل ، وقد كره ابن المواز مالك ذلك ولم يجوزه لأحد ، وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من [ ص: 86 ] مضى ، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه ، وهو أيضا من قول من مضى ، وهو في أمر واحد ، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ، ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل; فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا .
وما قاله صواب; فإن على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر ، مع عدم تطرق التهمة للحاكم ، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله . القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام
وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى ، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء ، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى; فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم ، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى; فصرف يحيى رسوله وقال له : لا أشير عليه بشيء; إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه; فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه ، وركب من فوره إلى يحيى ، وقال له : لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع ، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله ، فقال له يحيى : وتفعل ذلك صدقا ؟ قال : نعم ، قال له : فالآن هيجت غيظي; فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله ، متخيرا في الأقوال; فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف; فلا خير فيما تجيء به ، ولا في إن رضيته منك; فاستعف من ذلك فإنه أستر لك ، وإلا رفعت في عزلك; فرفع يستعفي فعزل .
وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها [ ص: 87 ] عياض ، وكانت مما غض من منصبه ، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وألا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر; فشكا إلى القاضي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه ، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس ، فقال له : فتكلم مع الفقهاء فيه ، وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه; فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة; فتكلم ابن بقي معهم; فلم يجعلوا إليه سبيلا; فغضب ابن بقي الناصر عليهم ، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم; فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصلالناصر معهم إلى مقصوده ، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر; فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها; فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة; فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم ، وعرفهم القاضي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها ، [ ص: 88 ] فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ، ابن بقي وابن لبابة ساكت; فقال القاضي له : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا فالذي قاله أصحابنا الفقهاء; وأما أهل مالك بن أنس العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة ، وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا ، فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال له : ناشدتكم الله العظيم; ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير محمد بن يحيى مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك; فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء; فكلهم قدوة فسكتوا ، فقال للقاضي : أنه إلى أمير [ ص: 89 ] المؤمنين فتياي; فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة; فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه ، وأشهد عليه وانصرفوا; فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة .
قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر; فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة; فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ، أو كما قال .
وذكر الباجي في كتاب " التبيين لسنن المهتدين " حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة; قال : وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال [ ص: 90 ] الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء ، دون أن يخرج عنها ، ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك; فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول ، لا لرأي تجدد له ، وإنما ذلك بحسب اختياره .
قال : ولقد حدثني من أثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض; فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد; فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك ألا شفعة في الإجارات ، قال لي : فوردت من سفري; فسألت أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين - عن مسألتي; فقالوا : ما علمنا أنها لك; إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها; فأفتاني جميعهم بالشفعة; فقضي لي بها .
قال : وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه .
قال الباجي : ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ، ولو استجازه لم يعلن به ، ولا أخبر به عن نفسه .
قال : وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية ، أو لعل فيها رخصة ، وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ، ولو [ ص: 91 ] كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ، ولا من سواي ، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ، ولا يسوغ ، ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه; فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية [ المائدة : 49 ] فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض ؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه ، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه ، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته ؟ ! .
هذا ما ذكره ، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ، ولا أن يفتي به أحدا [ ص: 92 ] والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر ; فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى ، وأما المجتهد; فهو أحرى بهذا الأمر .