الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة ، بل الأمر ينقسم; فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقه; فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه ، وما سوى ذلك من العلوم ، فلا يلزم ذلك فيه ، وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة [ ص: 46 ] الاجتهاد; فهذه ثلاثة مطالب لا بد من بيانها :

              أما الأول : وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة فالدليل عليه أمور :

              أحدها : أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة ، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة; فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته ، وأبو حنيفة كذلك ، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده ، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ، ويبني الحكم على ذلك ، والحكم لا يستقل دون ذلك [ ص: 47 ] الاجتهاد .

              ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم ; لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب ، وليس الأمر كذلك بالإجماع .

              والثاني : أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه ، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال ، بل يقول العلماء : إن من فعل ذلك; فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات ، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الأسطقصات أربعة ، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان ، وغير ذلك من المقدمات ، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى : [ ص: 48 ] " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم " بالخفض مروي على الصحة ، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم ، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية [ البقرة : 180 ] منسوخ بآية المواريث ، ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض ، وما أشبه ذلك ثم يبني عليه الأحكام ، بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين ، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر ، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد ، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية ، ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه ، وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر [ ص: 49 ] لوجود الصانع والرسالة والشريعة; إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها ، كانت كذلك في نفس الأمر أو لا ، وهذا أوضح من إطناب فيه .

              فلا يقال : إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التي يبنى عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده; لأنا نقول ، بل يحصل له العلم بذلك; لأنه مبني على فرض صحة تلك المقدمات ، وبرهان الخلف مبني على [ ص: 50 ] مقدمات باطلة في نفس الأمر ، تفرض صحيحة فيبنى عليها; فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب; فمسألتنا كذلك .

              والثالث : أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه ، فضلا أن يكون مجتهدا فيه ، وهو الاجتهاد في تنقيح المناط ، وإنما يفتقر إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة ، وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه ، وهو المطلوب .

              فإن قيل : إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه; لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا يكون مجتهدا فيها بإطلاق ، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق ، وكلامنا إنما هو [ ص: 51 ] في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق ، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها .

              فالجواب : إن ذلك شرط في العلم بالمسألة المجتهد فيها بإطلاق لا شرط في صحة الاجتهاد; لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد ، وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها ، فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه; كان بناؤه صحيحا; لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم ، وهو قد وقع ، ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني ، وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم وصاروا في عداد أهل الاجتهاد ، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم ، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها ، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم ، وعمل على وفقها ، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم; فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو [ ص: 52 ] غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم ، كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة ، والمزني والبويطي مع الشافعي ، فإذا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها .

              وأما الثاني من المطالب ، وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه ، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه; لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه; فلا بد من تحصيله على تمامه ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه .

              والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية ، ولا أعني بذلك النحو وحده ، ولا التصريف وحده ، ولا اللغة ، ولا علم المعاني ، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان ، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معان كيف تصورت ما عدا علم الغريب ، والتصريف المسمى بالفعل ، وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية; فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن [ ص: 53 ] كان العلم به كمالا في العلم بالعربية ، وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية ، وإذا كانت عربية; فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم; لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز ، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة ، أو متوسطا; فهو متوسط في فهم الشريعة ، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية; فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة; فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة ، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ، ولا كان قوله فيها مقبولا .

              فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها; كالخليل ، وسيبويه ، والأخفش ، والجرمي ، والمازني ومن سواهم ، وقد قال : الجرمي : " أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه " .

              [ ص: 54 ] وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث ، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش ، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب ، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها ، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ونحو ذلك ، بل هو يبين في كل باب ما يليق به ، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ، ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ، ومن هنالك كان الجرمي على ما قال ، وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه من غير إنكار .

              ولا يقال : إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية; فقالوا : ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل ، وسيبويه ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة ، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة .

              لأنا نقول : هذا غير ما تقدم تقريره ، وقد قال الغزالي في هذا الشرط : إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ، وحقيقته ومجازه ، وعامه وخاصه ، [ ص: 55 ] ومحكمه ومتشابهه ، ومطلقه ومقيده ، ونصه وفحواه ، ولحنه ومفهومه .

              وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ، ثم قال : والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد ، وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو .

              وهذا أيضا صحيح; فالذي نفي اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط ، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك [ ص: 56 ] المقدار ، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ، ولا أن يستعمل الدقائق; فكذلك المجتهد في العربية; فكذلك المجتهد في الشريعة ، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض; فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه; وإن كان ممن تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين ، وعلما في الأئمة المهتدين .

              وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى ، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ، ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره ، وبالعام يراد به العام ، ويدخله الخصوص ، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام ، وبالعام يراد به الخاص ، ويعرف بالسياق ، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره ، وآخره عن أوله ، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد .

              [ ص: 57 ] ثم قال : فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ، ومن تكلف ما جهل ، وما لم تثبته معرفته; كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان بخطئه غير معذور ، إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه .

              هذا قوله ، وهو الحق الذي لا محيص عنه ، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها ، وما سواها من المقدمات; فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا ، كأحكام النسخ ، وأحكام الحديث ، وما أشبه ذلك .

              فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ، ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب .

              وأما الثالث من المطالب : وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالما بها; فقد مر ما يدل عليه; فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه; فذلك لا يضره في كونه مجتهدا في عين مسألته [ ص: 58 ] كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدائرة مثلا ، فلا يضره في صحة برهانه تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة ، وهو المبرهن على وجودها ، وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان ، وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك في صحة اجتهاده ، بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك ، ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد ، وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن ، وإن كان هو غير عارف به ، وما أشبه ذلك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية