[ ص: 114 ] المسألة الرابعة
هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر; فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ، ولا إلى طرف الإثبات . محال الاجتهاد المعتبر
وبيانه أن نقول : لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا; فإن لم يأت فيها خطاب; فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود ، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة [ ص: 115 ] إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره ، وإن أتى فيها خطاب; فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا ; فإن لم يظهر له قصد البتة ، فهو قسم المتشابهات ، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا ، وتارة يكون غير قطعي; فأما القطعي ، فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات ، وليس محلا للاجتهاد ، وهو قسم الواضحات; لأنه واضح الحكم حقيقة ، والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي ، فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا; فليس من الواضحات بإطلاق ، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه ، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه; لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك ، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين ، وتارة لا يقوى; فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات ، والمقدم [ ص: 116 ] عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإن قوي في إحدى الجهتين; فهو قسم المجتهدات ، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه ، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين; فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، وأما على قول المخطئة; فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح ، وإلا فمعذور .
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات; إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات ، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات ، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا ، وأن الإضافي إنما صار إضافيا; لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين; فيقرب عند بعض من أحد الطرفين ، وعند بعض من الطرف الآخر ، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات ، فهو غير مستقر في نفسه; فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف ، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه; فثبوت العلم مع نفيه نقيضان; كوقوع التكليف وعدمه ، [ ص: 117 ] وكالوجوب وعدمه ، وما أشبه ذلك ، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان ، كالوجوب مع الندب ، أو الإباحة ، أو التحريم ، وما أشبه ذلك .
وهذا الأصل واضح في نفسه ، غير محتاج إلى إثباته بدليل ، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله .
فمن ذلك أنه نهى عن ، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء ، والسمك في الماء ، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار ، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع ، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين ، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث ، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري; فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره; لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في [ ص: 118 ] الثاني; فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين ، آخذة بشبه من كل واحد منهما; فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ، ومن منع مال إلى الجانب الآخر . بيع الغرر
ومن ذلك مسألة زكاة الحلي ، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين ، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين; فلذلك وقع الخلاف فيها .
واتفقوا على ، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق ، وصار المجهول الحال دائرا بينهما; فوقع الخلاف فيه . قبول رواية العدل وشهادته
واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه : هل يملك ، أم لا ؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين .
[ ص: 119 ] واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه ، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة ، وما بين ذلك دائر بين الطرفين; فاختلفوا فيه .
واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع ، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت ، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة ، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع ، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق ، أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق; فإن سكتوا من غير ظهور إنكار; فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه ، والمبتدع بما يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين; فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة ، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس [ ص: 120 ] من الأمة; فالوسط مختلف فيه : هل هو من الأمة ، أم لا ؟
وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق ، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق ، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال ، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص ، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال ، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال ، وكذلك ما أشبهها .
فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها; لأنها دائرة بين طرفين واضحين; فحصل الإشكال والتردد ، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات ، لا مبنيا على الظن ، ولا على القطع; إلا دائرا بين طرفين ولا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما فاعتبره تجد كذلك - إن شاء الله - .