[ ص: 121 ] فصل
وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد; لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف ، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : أتدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على إسته فهذا تنبيه على [ ص: 122 ] المعرفة بمواقع الخلاف .
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف .
فعن قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه .
وعن هشام بن عبيد الله الرازي : من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه .
وعن عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس; فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه .
[ ص: 123 ] وعن أيوب السختياني وابن عيينة : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء ، زاد أيوب : وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء .
وعن مالك : لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه ، قيل له : اختلاف أهل الرأي ؟ قال : لا ، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال يحيى بن سلام : لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي .
وعن سعيد بن أبي عروبة : من لم يسمع الاختلاف; فلا تعده عالما .
وعن قبيصة بن عقبة : لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس .
وكلام الناس هنا كثير ، وحاصله معرفة مواقع الخلاف ، لا حفظ مجرد الخلاف ، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر; فلا بد منه لكل مجتهد ، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره .


