[ ص: 258 ] المسألة الثانية
وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول ، والفعل والإقرار .
فأما فهو الأمر المشهور ، ولا كلام فيه . الفتوى بالقول
وأما فمن وجهين : بالفعل
أحدهما : ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال ، فهو قائم مقام القول المصرح به ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : . " الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا " وأشار بيديه
وسئل - عليه الصلاة والسلام - في حجته ، فقال : . ذبحت قبل أن أرمي ، فأومأ بيده ، قال : ولا حرج
[ ص: 259 ] وقال : . يقبض العلم ، ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج . قيل : يا رسول الله : وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل
وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء ، قلت : آية ؟ فأشارت برأسها ، أي نعم .
وحين سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أوقات الصلوات ، قال للسائل : . [ ص: 260 ] أو كما قال ، وهو كثير جدا . صل معنا هذين اليومين . ثم صلى ، ثم قال له : الوقت ما بين هذين
والثاني : ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به ، ومبعوثا لذلك قصدا ، وأصله قول الله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] .
وقال قبل ذلك : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ الأحزاب : 21 ] .
وقال في إبراهيم : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم [ الممتحنة : 4 ] إلى آخر القصة .
[ ص: 261 ] والتأسي : إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وشرع من قبلنا شرع لنا .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : لأم سلمة ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم .
وقال : و : صلوا كما رأيتموني أصلي . خذوا عني مناسككم
وحديث وغيره في الاقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ، ولذلك [ ص: 262 ] جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله . ابن عمر
وإذا كان كذلك ، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه ، لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا ، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر ، وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين :
أحدهما : أنه وارث ، وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا ، فكذلك الوارث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله .
والثاني : أن التأسي بالأفعال - بالنسبة إلى من يعظم في الناس - سر مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ، لا سيما عند الاعتياد والتكرار ، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به ، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس ، فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر ، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محلين :
أحدهما : حين دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الخروج من الكفر إلى الإيمان ، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله ، فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء ، كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا [ لقمان : 21 ] [ ص: 263 ] وما أشبهه من الآيات .
وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] .
ثم كرر عليهم التحذير من ذلك ، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب ، وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم ، وأضيفت الملة المحمدية إليه ، فقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم ، وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها ، وتعمل بكثير منها ، فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي ، وهو من أبلغ ما دعوا به من جهة التلطف بالرفق ، ومقتضى الحكمة ، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] .
وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] .
فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان - عليه الصلاة والسلام - يدعو بها .
وأيضا ، فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم ، فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي [ ص: 264 ] به ، فانقادوا ورجعوا إلى الحق .
والمحل الثاني : حين دخلوا في الإسلام ، وعرفوا الحق ، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي - عليه الصلاة والسلام - ونواهيه ، فربما أمرهم بالأمر ، وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول ، وقضيته - عليه الصلاة والسلام - معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال : لأم سلمة أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون ؟ فقالت : اذبح واحلق ، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه .
ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا ، واحتجوا بأنه يواصل ، فقال : ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا ، وقال : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني . لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم
وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما ، فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا .
[ ص: 265 ] وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله ، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب ، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر ، والمعنى في الموضعين واحد .
ولعل قائلا يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما ، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره ، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان ، فأفعاله لا يوثق بها ، فلا تكون مقتدى بها .
فالجواب : أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي ، فليعتبر مثله في نصب أقواله ، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا ؛ لأنه ليس بمعصوم ، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال ، لم يكن معتبرا في الأفعال ، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان ، فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله ، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة .
وأما فراجع في المعنى إلى الفعل ؛ لأن الكف فعل ، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه ، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 266 ] المنتصب بالفتوى ، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ، ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه ، واستخفى بنفسه ، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار ، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما ، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه . الإقرار