[ ص: 393 ] المسألة الثالثة
ترك الاعتراض على الكبراء محمود ، كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم .
والدليل على ذلك أمور :
أحدها : ما جاء في القرآن الكريم ، كقصة موسى مع الخضر ، واشتراطه عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا ، فكان ما قصه الله تعالى من قوله : هذا فراق بيني وبينك [ الكهف : 78 ] وقول محمد - عليه الصلاة والسلام - : موسى ، لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما وإن كان إنما تكلم بلسان العلم ، فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط . يرحم الله
وروي في الأخبار أن الملائكة لما قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [ البقرة : 30 ] [ ص: 394 ] الآية ، فرد الله عليهم بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ البقرة : 30 ] أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم .
وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ الأعراف : 12 ] فهو الذي كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير ، وهو دليل في مسألتنا ، وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا ، حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم .
والثاني : ما جاء في الأخبار كحديث : فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم - عليه الصلاة والسلام - بالخروج ، ولم يكتب لهم شيئا . تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا [ ص: 395 ] بعده
وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ، ومنعت الماء من [ ص: 396 ] السيلان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : وفي الحديث أنه لو تركته لكانت زمزم عينا معينا . طبخ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر فيها لحم ، فقال : ناولني ذراعا ، قال الراوي : فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فقلت : يا رسول الله كم للشاة من ذراع ؟ فقال : والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت أذرعا ما دعوت
[ ص: 397 ] [ ص: 398 ] وحديث علي قال : فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : فجلست وأنا أعرك عيني وأقول : إنا والله ما نصلي إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثها بعثها ، فولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى
[ ص: 399 ] وحديث : يا أيها الناس اتهموا الرأي ، فإنا كنا يوم ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه . أبي جندل
ولما حزن جد ، فقال له : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن المسيب حزن ، قال : بل أنت سهل ، قال : لا أغير اسما سماني به أبي ، قال سعيد : فما زالت الحزونة فينا حتى اليوم . وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
والثالث : ما عهد بالتجربة من أن ، ولا سيما عند الصوفية ، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل ، والزلة لا تقال ، ومن ذلك [ ص: 400 ] حكاية الشاب الخديم إذ كان صائما ، فقال له لأبي يزيد البسطامي أبو تراب النخشبي : كل معنا يا فتى ، فقال : أنا صائم ، فقال وشقيق البلخي أبو تراب : كل ولك أجر شهر ، فأبى ، فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى ، فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله ، فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده .
وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا فعليك بالعراق ، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ، ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه .
فالذي تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب ، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها - ألا يواجه بالاعتراض والنقد ، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح ، وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى .