الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  222 87 - حدثنا آدم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم ، فبال قائما ، ثم دعا بماء ، فجئته بماء فتوضأ .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة

                                                                                                                                                                                  لا يقال : الترجمة أعم لأنا ذكرنا فيما مضى ما يكفي في رده .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) : وهم خمسة تقدموا كلهم ، وآدم هو ابن أبي إياس ، والأعمش هو سليمان بن مهران ، وأبو وائل هو شقيق الكوفي ، وحذيفة هو ابن اليمان .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، ورواته ما بين خراساني وكوفي ، وفيه : عن أبي وائل ، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة ، عن الأعمش أنه سمع أبا وائل ، ولأحمد عن يحيى القطان عن الأعمش حدثني أبو وائل .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري ها هنا عن آدم ، عن شعبة ، وأخرجه أيضا في الطهارة عن سليمان بن حرب مختصرا كما ها هنا ، وفي الطهارة أيضا عن محمد بن عرعرة كلاهما عن شعبة ، وعن عثمان بن أبي شيبة عن جرير ، وأول حديث محمد بن عرعرة : كان أبو موسى يشدد على البول ، على ما سيأتي عن قريب ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى ، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية ، عن الأعمش به ، وفيه ذكر المسح ، وعن يحيى بن يحيى ، عن جرير نحو حديث محمد بن عرعرة ، وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر ، ومسلم بن إبراهيم كلاهما عن شعبة ، وعن مسدد ، عن أبي عوانة ، وأخرجه الترمذي فيه عن هناد ، عن وكيع ، عن الأعمش به ، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم ، عن يحيى بن يونس ، وعن المؤمل بن هشام ، عن ابن علية ، عن شعبة كلاهما عن الأعمش به ، وعن ابن بشار ، عن غندر ، عن شعبة ، عن منصور به ، وعن سليمان بن عبد الله الغيلاني ، عن بهز ، عن شعبة ، عن الأعمش ومنصور به ، وليس فيه ذكر المسح إلا في حديث عيسى بن يونس ، وفي حديث بهز ، وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن شريك ، وهشيم ، ووكيع ثلاثتهم عن الأعمش به من غير ذكر المسح .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لغته وإعرابه ) : قوله : " سباطة قوم " السباطة : على وزن فعالة بالضم ، وهو الموضع الذي يرمى فيه التراب بالأفنية مرفعا ، وقيل : السباطة الكناسة نفسها ، وكانت بالمدينة ، ذكره محمد بن طلحة بن مصرف ، عن الأعمش ، قوله : " قائما " نصب على الحال من الضمير الذي في " فبال " .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعنى ) : إضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها كانت بفناء دورهم للناس كلهم فأضيف إليهم لقربها منهم ، ولهذا بال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليها ، وبهذا يندفع إشكال من قال : إن البول يوهن الجدار ، وفيه ضرر ، فكيف هذا من النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وقد يقال : إنما بال فوق [ ص: 135 ] السباطة لا في أصل الجدار ، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في ( صحيحه ) ، وقيل : يحتمل أن يكون علم إذنهم في الجدار بالتصريح أو غيره ، أو لكونه مما سامح الناس به ، أو لعلمه صلى الله عليه وسلم بإيثارهم إياه ، بذلك يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره ، ولأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم ، قلت : هذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكا لأحد أو لجماعة معينين ، وقال الكرماني : وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ، ولا يكرهونه ، بل يفرحون به ، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه ، والأكل من طعامه ، قلت : هذا أيضا على تقدير أن تكون السباطة ملكا لقوم ، فإن قلت : كان من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب ، وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد " ، والمذهب بالفتح الموضع الذي يتغوط فيه ، وأخرجه بقية الأربعة أيضا ، قلت : يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا في ذلك الوقت بأمور المسلمين ، والنظر في مصالحهم ، فلعله طال عليه الأمر فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد ، وأنه لو أبعد لكان تضرر ، فإن قلت : روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال : " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأراد أن يبول ، فأتى دمثا في أصل جدار فبال " الحديث ، فهذا يخالف ما ذكرت فيما مضى عن قريب ، قلت : يجوز أن يكون الجدار ها هنا عاديا غير مملوك لأحد ، أو يكون قعوده متراخيا عن جرمه فلا يصيبه البول ، قوله : " ثم دعا بماء " ، زاد مسلم وغيره من طرق الأعمش : " فتنحيت فقال : ادنه ، فدنوت حتى قمت عند عقبه " ، وفي رواية أحمد ، عن يحيى القطان : " أتى سباطة قوم ، فتباعدت منه ، فأدناني حتى صرت قريبا من عقبه ، فبال قائما ، ودعا بماء ، فتوضأ به ، ومسح على خفيه " .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) : الأول : فيه جواز البول قائما ، فقاعدا أجوز ، لأنه أمكن ، وقد اختلف العلماء في هذا ، فأباحه قوم ، وقال ابن المنذر ثبت أن عمر ، وابنه ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما ، وأباحه سعيد بن المسيب ، وعروة ، ومحمد بن سيرين ، وزيد بن الأصم ، وعبيدة السلماني ، والنخعي ، والحكم ، والشعبي ، وأحمد ، وآخرون ، وقال مالك : إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به ، وإلا فمكروه ، وقالت عامة العلماء : البول قائما مكروه إلا لعذر ، وهي كراهة تنزيه لا تحريم ، وكذلك روي البول قائما عن أنس ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وكرهه ابن مسعود ، وإبراهيم بن سعد ، وكان إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما ، وقال ابن المنذر : البول جالسا أحب إلي ، وقائما مباح ، وكل ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب ، منها حديث المقداد عن أبيه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : " من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقه ، أنا رأيته يبول قاعدا " ، أخرجه البستي في ( صحيحه ) ، ورواه الترمذي ، وقال : حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب ، وأصح ، وأخرج أبو عوانة الإسفراييني في ( صحيحه ) بلفظ : " ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن " ، ومنها حديث بريدة رواه البزار بسند صحيح ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا عبد الله بن داود ، حدثنا سعيد بن عبيد الله ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من الجفاء : أن يبول الرجل قائما " الحديث ، وقال : لا أعلم رواه عن ابن بريدة إلا سعيد بن عبد الله ، وقال الترمذي : وحديث بريدة في هذا غير محفوظ ، وقول الترمذي يرد به .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عمر رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه البيهقي من حديث ابن جريج ، أخبرنا عبد الكريم بن أبي المخارق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال عمر رضي الله تعالى عنه : " رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائما فقال : يا عمر ، لا تبل قائما ، قال : فما بلت قائما بعد " ، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه ، أخرجه البيهقي أيضا من حديث عدي بن الفضل ، عن علي بن الحكم ، عن أبي نضرة ، عن جابر : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما " .

                                                                                                                                                                                  قلت : أما الجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها ، فيحمل على ما وقع منه في البيوت ، وأما في غير البيوت فلا تطلع هي عليه ، وقد حفظه حذيفة رضي الله عنه ، وهو من كبار الصحابة ، وأيضا يمكن أن يكون قول عائشة : " ما بال قائما " ، يعني في منزله ، ولا اطلاع لها على ما في الخارج ، فإن قلت : قال أبو عوانة في ( صحيحه ) ، وابن شاهين : إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة رضي الله عنها ، قلت : الصواب أنه لا يقال : إنه منسوخ ; لأن كلا من عائشة ، وحذيفة أخبر بما شاهده ، فدل على أن البول قائما وقاعدا يجوز ، ولكن كرهه العلماء قائما لوجود أحاديث النهي ، وإن كان أكثرها غير ثابت ، وأما حديث بريدة في هذا غير محفوظ ، ولكن فيه نظر ; لأن البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا ، وأما [ ص: 136 ] حديث عمر فقال الترمذي : فحديث ضعيف ; لأن ابن جريج رواه عن عبد الكريم بن المخارق أبو أمية ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : إنما رفعه عبد الكريم ، وقد ضعفه أيوب ، وتكلم فيه ، وروى عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال عمر : ما بلت قائما منذ أسلمت ، هذا أصح من حديث عبد الكريم ، وأما حديث جابر ففي رواته عدي بن الفضل ، وهو ضعيف ، فإن قلت : قال أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي في كتابه المسمى بقبول الأخبار ومعرفة الرجال : حديث حذيفة ، يعني هذا حديث فاحش منكر لا نراه إلا من قبل بعض الزنادقة ، قلت : هذا كلام سوء لا يساوي سماعه ، وهو في غاية الصحة ، فإن قلت : روي عن ابن ماجه من طريق شعبة أن عاصما روى له عن أبي وائل عن المغيرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما " ، قال عاصم ، وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قلت : قال الترمذي : حديث أبي وائل عن حذيفة أصح يعني من حديثه عن المغيرة ، وأيضا لا يبعد أن يكون أبو وائل رواه عن رجلين ، والرجلان شاهدا ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ، وأن أبا وائل أدى الحديثين عنهما ، فسمعه منه جماعة ، فأدى كل ما سمع ، ودليله أن غيرهما حكى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم أيضا منهم سهل بن سعد رضي الله عنه وحديثه في ( صحيح ابن خزيمة ) وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، وأخرج حديثه الحاكم ثم البيهقي عن حماد بن غسان الجعفي ، حدثنا معن ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمآبضه " ، وقال الذهبي : هذا منكر ، وضعفه الدارقطني ، والبيهقي ، وابن عساكر في كتابه ( مجموع الرغائب في ذكر أحاديث مالك الغرائب ) .

                                                                                                                                                                                  ثم إن العلماء تكلموا في سبب بوله صلى الله تعالى عليه وسلم قائما ، فقال الشافعي لما سأله حفص الفرد عن الفائدة في بوله قائما : العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما ، فنرى أنه كان به إذ ذاك ، قلت : يوضح ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المذكور آنفا .

                                                                                                                                                                                  والمآبض جمع مأبض بسكون الهمزة بعدها باء موحدة ثم ضاد معجمة ، وهو باطن الركبة ، وقال القاضي عياض : إنما فعله لشغله بأمور المسلمين ، فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول ، ولم يمكن التباعد كعادته ، وأراد السباطة لدمثها ، وأقام حذيفة يستره عن الناس ، وقال المازري في ( العلم ) : فعل ذلك لأنها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر بخلاف القعود ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : البول قائما أحصن للدبر ، وقال بعضهم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجد مكانا للقعود ، فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي يليه السباطة عليها مرتفعا ، وقال المنذري : لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة ، وهي رخوة فخشي أن يتطاير عليه ، قيل : فيه نظر ; لأن القائم أجدر بهذه الخشية من القاعد ، وقال الطحاوي : لكون ذلك سهلا ينحدر فيه البول فلا يرتد على البائل ، وقال بعضهم : إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بيانا للجواز في هذه المرة ، وكانت عادته المستمرة البول قاعدا .

                                                                                                                                                                                  الحكم الثاني : فيه جواز البول بالقرب من الديار . الثالث : فيه دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة لما فيه من الضرر .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه جواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء .

                                                                                                                                                                                  الخامس : في خدمة المفضول للفاضل والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية