الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي " صحيح البخاري " : عن سعيد بن جبير ، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا حرم امرأته ليس بشيء ، وقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) فقيل هذا رواية أخرى عن ابن عباس . وقيل إنما أراد أنه ليس بطلاق ، وفيه كفارة يمين ، ولهذا احتج بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الثاني أظهر ، وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس ، ونحن نذكرها ، ونذكر وجوهها ، ومآخذها ، والراجح منها ، بعون الله تعالى وتوفيقه .

أحدها : أن التحريم لغو لا شيء فيه ، لا في الزوجة ، ولا في غيرها ، لا طلاق ، ولا إيلاء ، ولا يمين ، ولا ظهار ، روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق : ( ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد )

وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن صالح بن مسلم ، عن الشعبي ، أنه ( قال في تحريم المرأة : لهي أهون علي من نعلي )

وذكر عن ابن جريج ، أخبرني عبد الكريم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه قال : ما أبالي حرمتها ، يعني امرأته ، أو حرمت ماء النهر .

وقال قتادة : سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك ؟ فقال : قال الله تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) [ ألم نشرح : 7 ] وأنت رجل تلعب ، فاذهب فالعب ، هذا قول أهل الظاهر كلهم .

المذهب الثاني : أن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث . قال ابن حزم قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر وهو قول الحسن ومحمد بن [ ص: 277 ] عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وروي عن الحكم بن عتيبة . قلت : الثابت عن زيد بن ثابت وابن عمر ما رواه هو من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة ، أنه سأل زيد بن ثابت ، وابن عمر ، عمن قال لامرأته . أنت علي حرام ، فقالا جميعا : كفارة يمين ، ولم يصح عنهما خلاف ذلك ، وأما علي ، فقد روى أبو محمد ابن حزم من طريق يحيى القطان ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : يقول رجال في الحرام ، هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ، ولا والله ما قال ذلك علي ، وإنما قال علي : ( ما أنا بمحلها ، ولا بمحرمها عليك ، إن شئت فتقدم ، وإن شئت فتأخر )

وأما الحسن ، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه أنه قال : ( كل حلال علي حرام فهو يمين ) ولعل أبا محمد غلط على علي وزيد ، وابن عمر ، من مسألة الخلية والبرية والبتة ، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث .

وقال هو عن علي وابن عمر صحيح ، فوهم أبو محمد وحكاه في : أنت علي حرام وهو وهم ظاهر ، فإنهم فرقوا بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين ، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث ، ولا أعلم أحدا قال إنه ثلاث بكل حال .

المذهب الثالث : أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك ، وإن كانت غير مدخول بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث ، فإن أطلق فواحدة ، وإن قال لم أرد طلاقا ، فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه ، وإن كان ابتداء لم يقبل ، وإن حرم أمته ، أو طعامه ، أو متاعه ، فليس بشيء ، وهذا مذهب مالك .

المذهب الرابع : أنه إن نوى الطلاق ، كان طلاقا ، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث ، وإن نوى دونها فواحدة بائنة ، وإن نوى يمينا فهو يمين فيها كفارة ، وإن لم ينو شيئا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء . فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ، ولم يكن شيئا ، ويكون في القضاء إيلاء ، وإن صادف غير الزوجة الأمة والطعام وغيره ، فهو يمين فيه كفارتها وهذا مذهب أبي حنيفة .

المذهب الخامس : أنه إن نوى به الطلاق ، كان طلاقا ، ويقع ما نواه فإن [ ص: 278 ] أطلق ، وقعت واحدة ، وإن نوى الظهار كان ظهارا ، وإن نوى اليمين ، كان يمينا ، وإن نوى تحريم عينها من غير طلاق ولا ظهار ، فعليه كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا ففيه قولان : أحدهما : لا يلزمه شيء .

والثاني : يلزمه كفارة يمين . وإن صادف جارية فنوى عتقها ، وقع العتق ، وإن نوى تحريمها ، لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين ، وإن نوى الظهار منها ، لم يصح ، ولم يلزمه شيء ، وقيل بل يلزمه كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا ففيه قولان : أحدهما : لا يلزمه شيء . والثاني : عليه كفارة يمين . وإن صادف غير الزوجة والأمة لم يحرم ، ولم يلزمه به شيء ، وهذا مذهب الشافعي .

المذهب السادس : أنه ظهار بإطلاقه ، نواه أو لم ينوه ، إلا أن يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين ، فينصرف إلى ما نواه ، هذا ظاهر مذهب أحمد .

وعنه رواية ثانية أنه بإطلاقه يمين إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق ، فينصرف إلى ما نواه ، وعنه رواية أخرى ثالثة ، أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيره ، وفيه رواية رابعة ، حكاها أبو الحسين في " فروعه " أنه طلاق بائن . ولو وصله بقوله أعني به الطلاق ، فعنه فيه روايتان . إحداهما : أنه طلاق ، فعلى هذا ، هل تلزمه الثلاث ، أو واحدة ؟ على روايتين ، والثانية أنه ظهار أيضا ، كما لو قال : أنت علي كظهر أمي : أعني به الطلاق ، هذا تلخيص مذهبه .

المذهب السابع : أنه إن نوى به ثلاثا ، فهي ثلاث ، وإن نوى به واحدة ، فهي واحدة بائنة ، وإن نوى به يمينا ، فهي يمين ، وإن لم ينو شيئا ، فهي كذبة لا شيء فيها ، وهذا مذهب سفيان الثوري ، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم .

المذهب الثامن : أنه طلقة واحدة بائنة بكل حال ، وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان .

المذهب التاسع : أنه إن نوى ثلاثا فثلاث ، وإن نوى واحدة ، أو لم ينو شيئا ، فواحدة بائنة ، وهذا مذهب إبراهيم النخعي ، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم .

[ ص: 279 ] المذهب العاشر : أنه طلقة رجعية ، حكاه ابن الصباغ ، وصاحبه أبو بكر الشاشي ، عن الزهري ، عن عمر بن الخطاب .

المذهب الحادي عشر : أنها حرمت عليه بذلك فقط ، ولم يذكر هؤلاء ظهارا ، ولا طلاقا ، ولا يمينا ، بل ألزموه موجب تحريمه . قال ابن حزم صح هذا عن علي بن أبي طالب ورجال من الصحابة لم يسموا وعن أبي هريرة .

وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، أنهم أمروه باجتنابها فقط .

المذهب الثاني عشر : التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ، ولا يحللها له ، كما رواه الشعبي عن علي أنه قال : ( ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك ، إن شئت فتقدم ، وإن شئت فتأخر )

المذهب الثالث عشر : الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا ، وبين أن يخرجه مخرج اليمين ، فالأول ظهار بكل حال ، ولو نوى به الطلاق ، ولو وصله بقوله : أعني به الطلاق .

والثاني : يمين يلزمه به كفارة يمين ، فإذا قال أنت علي حرام ، أو إذا دخل رمضان فأنت علي حرام ، فظهار ، وإذا قال إن سافرت ، أو إن أكلت هذا الطعام ، أو كلمت فلانا ، فامرأتي علي حرام ، فيمين مكفرة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، فهذه أصول المذاهب في هذه المسألة ، وتتفرع إلى أكثر من عشرين مذهبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية