الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 221 ] مسألة [ إنكار الشيخ ما حدث به ] إذا روى ثقة عن ثقة حديثا ، ثم رجع الشيخ فأنكره ، فله حالان : أحدهما : أن يكذب الراوي عنه صريحا كقوله : كذب علي ما رويت له هذا قط . فالمشهور عدم قبول الحديث ، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي . قال ابن السمعاني في " القواطع " : إنه الذي عليه الأصحاب ، وسواء كان الفرع جازما بالرواية عنه أو لم يكن . ويصير كتعارض البينتين ، فيرد ما جحده الأصل ; لأن الراوي عنه فرعه ; ولأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ، فلا بد وأن يكون أحدهما كاذبا قطعا ، لكن لا يثبت كذب الفرع بتكذيب الأصل له في غير هذا الذي رواه ، بحيث أن يكون ذلك جرحا للفرع ; لأنه أيضا يكذب شيخه في نفيه ذلك ، وليس قبول جرح أحدهما بأولى من الآخر ، فتساقطا .

                                                      ويرد من حديث الفرع ما نفى الأصل تحديثه به خاصة ، ولا يرد من حديث الأصل نفسه إذا حدث به ، كما قال القاضي أبو بكر فيما حكاه عن الخطيب البغدادي ، وكذا إذا حدث به فرع آخر ثقة عنه ، ولم يكذبه [ ص: 222 ] الأصل فهو مقبول ، ونقل الهندي وغيره الإجماع في هذه الحالة على الرد ، وليس كذلك ، بل في المسألة مذهبان . أحدهما : التوقف ; لأنه تعارض أمران ، قطع المنقول عنه بكذب الراوي ، وقطع الناقل بالنقل ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، وهو ظاهر كلام ابن الصباغ في " العدة " ونقله ابن القشيري عن اختيار القاضي أبي بكر ، واختاره إمام الحرمين . ونقل عن القاضي أنه قطع بالرد في هذا الموضع ، ونازعه ابن القشيري ، وقال : الذي التزمه القاضي في " التقريب " التوقف ، وهو عين ما اختاره الإمام . قال : وهذا كخبرين تعارضا ، فإما أن يتساقطا أو يرجح أحدهما إن أمكن .

                                                      قلت : روى الخطيب في " الكفاية " بإسناده عن القاضي مثل ما نقله إمام الحرمين ، وعابه القاضي في " التقريب " . فأما إذا قال : أعلم أني ما حدثته ، فقد كذب ، فليس قبول جرح شيخه له أولى من العكس . فيجب إيقاف العمل بهذا الحديث ، ويرجع في الحكم إلى غيره ، ويجعل بمثابة ما لم يرد ، اللهم إلا أن يرويه الشيخ مع قوله : إني لم أحدث به هذا الراوي عني ، فيعمل فيه بروايته دون روايته عنه . ا هـ . والثاني : أن تكذيب الأصل للفرع لا يسقط المروي ، ولهذا لو اجتمعا في شهادة لم ترد ، وهذا ما اختاره أبو الحسين بن القطان كما رأيته في كتابه . وأبو المظفر بن السمعاني في " القواطع " . قال ابن القطان : وهو مخالف للشهادة من هذا الوجه ; لأن أمر الشهادة متعلق بقوله ، بخلاف الخبر ، وجزم به الماوردي ، والروياني أيضا فقالا : لا يقدح ذلك في صحة الحديث إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل . [ ص: 223 ] الحالة الثانية : أن ينكره فعلا بأن يعمل بخلاف الخبر ، فإن كان قبل الرواية ، فلا يكون تكذيبا بوجه ; لأن الظاهر أنه تركه لما بلغه الخبر ، وكذلك إذا لم يعلم التاريخ حمل عليه تحريا لموافقة السنة .

                                                      وأما إذا كان بعد الرواية ، نظر فيه فإن كان الخبر يحتمل ما عمل به بضرب من التأويل لم يكن تكذيبا ; لأن باب التأويل في الأخبار غير مسدود ، لكن لا يكون حجة ; لأن تأويله برأيه لا يلزم غيره ، وإن كان الخبر لا يحتمل ما عمل به فهو مردود ، هكذا قال ابن الأثير في " شرح مسند الشافعي " . واعلم أن هذا التفصيل لأبي زيد الدبوسي ، وقياس مذهبنا أنه لا يرد به مطلقا . الحالة الثالثة : أن ينكره تركا ، فإن امتنع الشيخ من العمل بالحديث ففيه دليل على أنه لو عرف صحته لما امتنع من العمل به ، فإنه يحرم عليه مخالفته مع العلم بصحته ، وله حكم الحالة الثانية . الحالة الرابعة : أن لا يصرح الأصل بتكذيبه ، ولكن شك أو ظن ، أو قال : لا أذكره أو لا أعرفه ، ويغلب على ظني أني ما حدثتك ، والفرع جازم به . فهاهنا توقف القاضي فيما نقله عنه الخطيب في الكفاية ، والجمهور على عدم التوقف ، وهو الذي رأيته في " التقريب " للقاضي . واختلفوا هل يكون الحكم للفرع الذاكر ، أو الأصل الناسي ؟ فيه قولان ، فذهب أصحابنا إلى الأول ، ووافقنا محمد بن الحسن ، وأن نسيان الأصل لا يسقط العمل بما فيه . قال القاضي : وهو مذهب الدهماء من العلماء والفقهاء من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة [ ص: 224 ] وهذا يشترط أن يكون في نفسه تاركا له ، وأن يكون الراوي الناسي لما رواه وقت روايته بصفة من يقبل خبره ، وقال سليم في " التقريب " : هو قول أصحاب الحديث بأسرهم ، وبعض الحنفية ، وقال ابن القشيري : هو ما اختاره القاضي وادعاه مذهب الشافعي . قال : وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العلم به . وقال القاضي : فيه تفصيل ونزل عليه كلام الشافعي ، وذهب الكرخي والرازي وأكثر الحنفية إلى أنه لا يقبل ، ولهذا ردوا خبر { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها } الخبر ; لأن راويه : الزهري قال : لا أذكره ، وكذا حديث سهيل بن أبي صالح في الشاهد واليمين .

                                                      وذكر الرافعي في باب الأقضية أن القاضي ابن كج حكاه وجها عن بعض الأصحاب ، ونقله شارح " اللمع " عن اختيار القاضي أبي حامد المروروذي ، وأنه قاسه على الشهادة ، وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجوز لكل أحد أن يرويه إلا الذي نسيه ، فإنه يسقط في حقه ، وليس له أن يرويه عن المروي عنه ، لأنه فرع ، وستأتي هذه المسألة . لنا أن الراوي عدل جازم بالرواية ، فيجب العمل لحصول اليقين ، وتوقف الشيخ ليس بمعارض ، بل يجب على الشيخ أن يقول : حدثني فلان عني ، ويعمل به . قال القرافي : فإن قيل : هلا حملتم النسيان على الكلامي وتعريفهم ؟ قيل له : النسيان لم يقع منه ، وهو ظاهر العدالة . [ ص: 225 ] قال العلماء : ولأجل هذا الخلاف كره جماعة الرواية عن الأحياء ، منهم الشعبي ، وعبد الرزاق ، والشافعي ، حكاه الخطيب في " الكفاية " ، وذكر البيهقي في " المدخل " أن ابن عبد الحكم روى عن الشافعي حكاية ، فأنكرها الشافعي ، ثم ذكرها ، وقال : لا تحدث عن حي ، فإن الحي لا يؤمن عليه النسيان . وفصل أبو زيد الدبوسي بين أن يكون الأصل يغلب عليه النسيان ، واعتاد ذلك في محفوظاته ، فيقبل ، وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلا بذلك الخبر رده .

                                                      وفصل إلكيا الطبري منا بين أن لا يكون هناك دليل يستقل ، فإن التردد وإن لم يعارض قطع الراوي ، لكنه يورث ضعفا . فيصير بمثابة خبرين يتعارضان ، وأحد الراويين أوثق ، فإن معارضة الثاني له تخرجه عن أحد الأدلة المستقلة ، وإن وجدنا وراءه دليلا مستقلا ، فهو أولى ، فإن ما في أحد الحديثين من مزيد وضوح لا يستقل دليلا . قال : وهذا حسن جدا إلا أنا سنذكر ترددا في أن مزية الحديث أولى بالاعتبار أو القياس ، ويضطرب الراوي فيه ، سيما إذا كان القياس جليا كالذي يقررونه في مسألة النكاح بغير ولي . فإن قيل : إذا لم يكن معكم خبر مستقل في تلك المسألة ، فعلى ماذا تعتمدون ما رواه ؟ فقيل : روي الخبر الذي تردد فيه الزهري من طريق [ ص: 226 ] آخر غير طريق الزهري . قال : وكان إمام الحرمين يرى الخبر دليلا مستقلا ، مع تردد الشيخ ، ولكن كان يرى إذا قطع الشيخ بالرد أن ذاك يمنع قبول روايته . قال إلكيا : ومن لم يسلك الطريق الذي سلكناه لا يعدم من التعرض على ما ذكره الإمام كلاما مخيلا ، فإن قطع النافي قد لا يعارض قطع المثبت ، فمن الممكن أنه رواه ، ثم نسي ، وظهر عنده أنه لم يرو .

                                                      تنبيهات . الأول : يجوز للراوي في هذه الحالة أن يرويه عن الأصل ، بخلاف ما قبلها . قاله الماوردي و الروياني . الثاني : هذا كله في أن الغير : هل يجوز له أن يعتمده ; لأنه الطريق له ؟ وقد تمسك الشافعي برواية سليمان بن موسى عن الزهري ، مع قول الزهري : لا أدري .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية