الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وهذا صراط ربك مستقيما ) أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته ، هو صراط ربك أيها الرسول الذي بعثك به ، وبين لك في هذه الآيات أو هذه السورة أصوله وعقائده بالحجج النيرات ، والآيات البينات ، حال كونه مستقيما في نظر العقل الصحيح ومقتضى الفطرة السليمة من فساد الإفراط والتفريط ، فلا اعوجاج فيه ولا التواء ، وإنما هو السبيل السواء ، ومن عرفه تبين له اعوجاج ما عداه من السبل التي عليها سائر أهل الملل والنحل . ( قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ) أي قد بينا الآيات والحجج المثبتة لحقيقته وأصوله الراسخة ، ومحاسن فروعه المثمرة النافعة ، لقوم يتذكرون ما بلغوه منها كلما عرضت الحاجة إليه فيزدادون بها يقينا ورسوخا في الإيمان ، ويدرءون ما يورد عليهم من الشبهات والأوهام ، كما يزدادون إذعانا وموعظة تبعثهم على الأعمال الصالحة ، ولذلك خصوا بالذكر دون غيرهم . وتفسيرنا للمشار إليه بقوله : ( وهذا صراط ربك ) بالإسلام هو الموافق لقواعد العربية ، لأنه أقرب مذكور يصح أن يكون هو المراد . وهو المروي [ ص: 54 ] عن ابن عباس ، ومن خالفه فقد تكلف وتعسف . وقوله : ( مستقيما ) منصوب على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو التنبيه من معنى الفعل .

                          ( لهم دار السلام عند ربهم ) أي لهؤلاء القوم المتذكرين السالكين صراط ربهم المستقيم - دون غيرهم من متبعي سبل الشيطان - دار السلام عند ربهم بسلوكهم صراطه الموصل إليها ، وهو ما كانوا يعملونه كما صرح به في آخر الآية ، فهذا بيان جزاء المؤمنين الصالحين ، في مقابل ما بين قبله من جزاء المجرمين بقوله : ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) ودار السلام هي الجنة دار الجزاء للمؤمنين المتقين ، أضيفت إلى اسم الله ( السلام ) كما رواه ابن جرير عن السدي وعزاه بعض المفسرين إلى الحسن وابن زيد أيضا ، وقيل : إن السلام مصدر سلم كالسلامة . والإضافة على التفسير الأول للتشريف ، وكذا للإيذان بسلامة تلك الدار من العيوب وسلامة أهلها من جميع المنغصات والكروب ، خلافا لمن زعم أن إفادة هذا المعنى خاصة بجعل السلام مصدرا كالسلامة ، وقوله : ( عند ربهم ) تقدم معناه في تفسير مقابله الذي ذكرنا آنفا ( وهو وليهم بما كانوا يعملون ) الضمير راجع إلى ربهم ، أو السلام على القول بأنه هو الله تعالى . ووليهم متولي أمورهم وكافيهم كل أمر يعنيهم ، بسبب ما كانوا يعملونه بباعث الإيمان به والإذعان لما جاء به رسوله من أعمال الصلاح المزكية لأنفسهم ، والإصلاح المفيدة لكل من يعيش معهم ، وهذه الولاية الإلهية للمتذكرين من المؤمنين الصالحين تشمل ولاية الدنيا والآخرة . والآية نافية للقول بالجبر ، ومبطلة للقول بإنكار القدر بصراحتها بنوط الجزاء بالعمل ، فإسناد العمل إليهم ينفي الجبر ، ونوط الجزاء به يثبت القدر الذي هو جعل شيء مرتبا على شيء آخر مقدرا بقدره ، وليس خلقا أنفا ، أي مبتدأ ومستأنفا ، والله أعلم وأحكم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية