الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة ) أما الحاجة فلحديث عائشة رضي الله عنها { كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان } ولأنه معلوم وقوعها ، ولا بد من الخروج في تقضيتها فيصير الخروج لها مستثنى ، ولا يمكث بعد فراغه من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها ، وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه وهي معلوم وقوعها . وقال الشافعي رحمه الله : الخروج إليها مفسد لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع ، ونحن نقول : الاعتكاف في كل مسجد مشروع ، [ ص: 395 ] وإذا صح الشروع فالضرورة مطلقة في الخروج ، ويخرج حين تزول الشمس لأن الخطاب يتوجه بعده ، وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها ويصلي قبلها أربعا ، وفي رواية ستا ، الأربع سنة ، والركعتان تحية المسجد ، وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة ، وسننها توابع لها فألحقت بها ، ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك لا يفسد اعتكافه لأنه موضع اعتكاف إلا أنه لا يستحب لأنه التزم أداءه في مسجد واحد فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة ( ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه ) عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لوجود المنافي وهو القياس ، وقالا : لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم [ ص: 396 ] وهو الاستحسان لأن في القليل ضرورة .

التالي السابق


( قوله فلحديث عائشة رضي الله عنها ) روى الستة في كتبهم عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان } وتقدم في حديث عائشة رضي الله عنها أيضا .

( قوله الاعتكاف في كل مسجد مشروع ) هذا على وجه الإلزام على عمومه ، فإن الشافعي يجيزه في كل مسجد . وأما على رأينا فلا إذ لا يجوز إلا في مسجد يصلى فيه الخمس بجماعة [ ص: 395 ] أو دونها إذا كان جامعا فلا يكون التمسك على العموم بقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } كما فعله الشارحون صحيحا على المذهب . والحاصل أن الاعتكاف في غير الجامع جائز في الجملة بالاتفاق أو إلزاما بالدليل ، فإذا صح فبعد ذلك الضرورة مطلقة للخروج مع بقاء الاعتكاف وهي هنا متحققة نظرا إلى الأمر بالجمعة .

( قوله ويصلي قبلها أربعا ) ينبغي جعل هذه الجملة عطفا على إدراكها من باب { صافات ويقبضن } و { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا } بمعنى قابضات وجاعل ، فينحل إلى أن يخرج في وقت بحيث يمكنه إدراكها وصلاة أربع أو ست قبلها يحكم في ذلك رأيه ، وهذا يستلزم أن يجتهد في خروجه على إدراك السماع للخطبة لأن السنة إنما تصلى قبل خروج الخطيب .

( قوله والركعتان تحية المسجد ) صرحوا بأنه إذا شرع في الفريضة حين دخل المسجد أجزأه عن تحية المسجد ، لأن التحية تحصل بذلك فلا حاجة إلى غيرها في تحققها وكذا السنة ، فهذه الرواية وهي رواية الحسن إما ضعيفة أو مبنية على أن كون الوقت مما يسع فيه السنة وأداء الفرض بعد قطع المسافة مما يعرف تخمينا لا قطعا ، فقد يدخل قبل الزوال لعدم مطابقة ظنه ولا يمكنه أن يبدأ بالسنة فيبدأ بالتحية فينبغي أن يتحرى على هذا التقدير ، لأنه قلما يصدق الحزر .

( قوله وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف ) منهم من جعل قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن السنة بعدها أربع ، وقولهما ست ، ومنهم من اقتصر في الست على أنه قول أبي يوسف رحمه الله ، وقدمنا الوجه في باب صلاة الجمعة للفريقين .

( قوله وسننها توابع لها ) يعني فتتحقق الحاجة لها كما تحققت لنفس الجمعة فلا يكون بصلاتها في الجامع مخالفا لما هو الأولى ، وهو أن لا يقعد في الجامع إلا قدر الحاجة التي جوزت خروجه ، وإلا فلو استمر هو فيه بغير حاجة لم يبطل اعتكافه لأن خروجه كان لمجوز فلم يبطله ، ومقامه بعد الحاجة في محل الاعتكاف فلا يبطل إلا أن الأولى أن يتم في مكان الشروع لأن إتمام هذه العبادة في محل الشروع وهي عبادة تطول أحز على النفس منه في محال مختلفة ، فإن في هذا ترويحا لها من كد التقيد بالعبادة في مكان واحد ، ولأن الظاهر أنه إذا شرع في عبادة في مكان تقيد به حتى يتمها فيكون كالإخلاف بعد الالتزام .

( قوله ولو خرج من المسجد ساعة من ليل أو نهار ) وتقييده في الكتاب الفساد بما إذا كان الخروج [ ص: 396 ] بغير عذر يفيد أنه إذا كان لعذر لا يفسد . وعليه مشى بعضهم فيما إذا خرج لانهدام المسجد إلى مسجد آخر . أو أخرجه سلطان . أو خاف على متاعه فخرج ، وحكم بالفساد إذا خرج لجنازة وإن تعينت عليه ، أو لنفير عام أو لأداء شهادة . والذي في فتاوى قاضي خان والخلاصة : أن الخروج عامدا أو ناسيا أو مكرها بأن أخرجه السلطان أو الغريم . أو خرج لبول فحبسه الغريم ساعة . أو خرج لعذر المرض فسد اعتكافه عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعلل قاضي خان في الخروج للمرض بأنه لا يغلب وقوعه فلم يصر مستثنى عن الإيجاب ، فأفاد هذا التعليل الفساد في الكل ، وعن هذا فسد إذا عاد مريضا أو شهد جنازة .

وتقدم في حديث عائشة النهي عنه مطلقا ، فأفاد أنه لو تعين عليه صلاة الجنازة أيضا يفسد إلا أنه لا يأثم به كالخروج للمرض ، بل يجب عليه الخروج كما في الجمعة إلا أنه يفسد لأنه لم يصر مستثنى حيث لم يغلب وقوع تعين صلاة الجنازة على واحد معتكف بخلاف الجمعة .

فإنه معلوم وقوعها فكانت مستثناة . وعلى هذا إذا خرج لإنقاذ غريق أو حريق أو جهاد عم نفيره يفسد ولا يأثم . وهذا المعنى يفيد أيضا أنه إذا انهدم المسجد فخرج إلى آخر يفسد لأنه ليس غالب الوقوع ، ونص على فساده بذلك قاضي خان وغيره .

وتفرق أهله وانقطاع الجماعة منه مثل ذلك . ونص الحاكم أبو الفضل فقال في الكافي : وأما في قول أبي حنيفة فاعتكافه فاسد إذا خرج ساعة لغير غائط أو بول أو جمعة فالظاهر أن العذر الذي لا يغلب مسقط للإثم لا للبطلان وإلا لكان النسيان أولى بعدم الإفساد لأنه عذر ثبت شرعا اعتبار الصحة معه في بعض الأحكام ، ولا بأس أن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض أهله ليغسله أو يرجله كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام ، وإن غسله في المسجد في إناء بحيث لا يلوث المسجد لا بأس به .

وصعود المئذنة إن كان بابها من خارج المسجد لا يفسد في ظاهر الرواية . وقال بعضهم : هذا في حق المؤذن لأن خروجه للأذان معلوم فيكون مستثنى .

أما غيره فيفسد اعتكافه ، وصحح قاضي خان أنه قول الكل في حق الكل ، ولا شك أن ذلك القول أقيس بمذهب الإمام . وفي شرح الصوم للفقيه أبي الليث : المعتكف يخرج لأداء الشهادة ، وتأويله أنه إذا لم يكن شاهد آخر فيتوى حقه . ولو أحرم المعتكف بحج لزمه إذ لا ينافيه . ولا يجوز له الخروج إلا إذا خاف فوت الحج فيخرج حينئذ ويستقبل الاعتكاف .

ولو احتلم لا يفسد اعتكافه ، فإن أمكنه أن يغتسل في المسجد من غير تلويث فعل ، وإلا خرج فاغتسل ثم يعود .

( قوله وهو الاستحسان ) يقتضي ترجيحه لأنه ليس من المواضع المعدودة التي رجح فيها القياس على الاستحسان . ثم هو من قبيل الاستحسان بالضرورة كما ذكره المصنف ، واستنباط من عدم أمره إذا خرج إلى الغائط أن يسرع المشي ، بل يمشي على التؤدة وبقدر البطء تتخلل السكنات بين الحركات على ما عرف في فن الطبيعة ، وبذلك يثبت قدر من الخروج في غير محل الحاجة ، فعلم أن القليل عفو فجعلنا الفاصل بينه وبين الكثير أقل من أكثر اليوم أو الليلة لأن مقابل الأكثر يكون قليلا بالنسبة إليه ، وأنا لا أشك أن من خرج من المسجد إلى السوق للعب واللهو أو القمار من بعد الفجر إلى ما قبل نصف النهار كما هو قولهما ، ثم قال " يا رسول الله أنا معتكف .

قال : ما أبعدك عن العاكفين " ولا يتم مبنى هذا الاستحسان فإن الضرورة التي يناط [ ص: 397 ] بها التخفيف هي الضرورة اللازمة أو الغالبة الوقوع ، ومجرد عروض ما هو ملجئ ليس بذلك . ألا يرى أن من عرض له في الصلاة مدافعة الأخبثين على وجه عجز عن دفعه حتى خرج منه لا يقال ببقاء صلاته كما يحكم به مع السلس مع تحقق الضرورة والإلجاء وسمي ذلك معذورا دون هذا مع أنهما يجيزانه لغير ضرورة أصلا .

إذ المسألة هي أن خروجه أقل من نصف يوم لا يفسد مطلقا سواء كان لحاجة أو لا بل للعب . وأما عدم المطالبة بالإسراع فليس لإطلاق الخروج اليسير بل لأن الله تعالى يحب الأناة والرفق في كل شيء حتى طلبه في المشي إلى الصلاة ، وإن كان ذلك يفوت بعضها معه بالجماعة .

وكره الإسراع ونهي عنه وإن كان محصلا لها كلها في الجماعة تحصيلا لفضيلة الخشوع إذ هو يذهب بالسرعة والعاكف أحوج إليها في عموم أحواله لأنه سلم نفسه لله تعالى متقيدا بمقام العبودية من الذكر والصلاة والانتظار للصلاة ، فهو في حال المشي المطلق له داخل في العبادة التي هي الانتظار ، والمنتظر للصلاة في الصلاة حكما فكان محتاجا إلى تحصيل الخشوع في حال الخروج ، فكانت تلك السكنات كذلك ، وهي معدودة من نفس الاعتكاف لا من الخروج ، ولو سلم أن القليل غير مفسد لم يلزم تقديره بما هو قليل بالنسبة إلى مقابله من بقية تمام يوم أو ليلة ، بل بما يعد كثيرا في نظر العقلاء الذين فهموا معنى العكوف ، وأن الخروج ينافيه .




الخدمات العلمية