الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 493 ] قال ( ثم يأتي مكة من يومه ذلك أو من الغد أو من بعد الغد ، فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط ) لما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى } . ووقته أيام النحر لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال { فكلوا منها } ثم قال { وليطوفوا بالبيت العتيق } فكان وقتهما واحدا . وأول وقته بعد طلوع الفجر من يوم النحر ، لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة [ ص: 494 ] والطواف مرتب عليه ، وأفضل هذه الأيام أولها كما في التضحية . وفي الحديث { أفضلها أولها } ( فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه ، وإن كان لم يقدم السعي [ ص: 495 ] رمل في هذا الطواف وسعى بعده ) لأن السعي لم يشرع إلا مرة [ ص: 496 ] والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي ( ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف ) لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان للطواف أو نفلا لما بينا . قال ( وقد حل له النساء ) ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف ، إلا أنه أخر عمله في حق النساء .

[ ص: 493 ]

التالي السابق


[ ص: 493 ] قوله لما روي إلخ ) هذا دليل يخص يوم النحر بالإضافة ، لا أنه يفيد ما ذكره من أنه يفيض في أحد الأيام الثلاثة فكان الأحسن أن يقدم عليه قوله وأفضل هذه الأيام أولها ليكون دليل السنة ، ويثبت الجواز في اليومين الأخيرين بالمعنى وهو ما ذكره بقوله ووقته أيام النحر إلخ ، وأما حديث { أفضلها أولها } فالله سبحانه وتعالى أعلم به .

ثم الحديث الذي ذكره أخرجه مسلم عن ابن عمر { أنه عليه الصلاة والسلام أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى } قال نال نافع : وكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله . والذي في حديث جابر الطويل الثابت في مسلم وغيره من كتب السنن خلاف ذلك حيث قال { ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى الظهر بمكة } ولا شك أن أحد الخبرين وهم .

وثبت عن عائشة رضي الله عنها مثل حديث جابر الطويل بطريق فيه ابن إسحاق وهو حجة على ما هو الحق ، ولهذا قال المنذري في مختصره : هو حديث حسن .

وإذا تعارضا ولا بد من صلاة الظهر في أحد المكانين ففي مكة بالمسجد الحرام أولى لثبوت مضاعفة الفرائض فيه . ولو تجشمنا الجمع حملنا فعله بمنى على الإعادة بسبب اطلع عليه يوجب نقصان المؤدى أو لا ( قوله فكان وقتهما واحدا ) يعني فكان وقت الذبح وقتا للطواف لا وقت الطواف ، فإن الطواف لا يتوقت بأيام النحر حتى يفوت بفواتها بل وقته العمر إلا أنه يكره تأخيره عن هذه الأيام ، وحينئذ فوجه الاستدلال بالعطف أنه عطف طلب الطواف على الأكل من الأضحية الملزوم للذبح في قوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فكان على الذبح اللازم .

ومن ضرورة جمع طلبهما مطلقا إطلاق الإتيان بكل منهما من حين يتحقق وقت أحدهما ، الذبح يتحقق وقته من فجر النحر فمنه يتحقق وقت الطواف . والحاصل أن وقت الطواف أوله طلوع الفجر من يوم النحر لا من ليلته كما يقوله الشافعي لأن ذلك وقت الوقوف ولا آخر له ، بل مدة وقته العمر ، إلا أنه يجب فعله قبل مضي أيام النحر عند أبي حنيفة ، خلافا لهما ، بل ذلك عند هما للسنة يكره خلافها وستأتي المسألة [ ص: 494 ]

[ وهذه فروع تتعلق بالطواف ] مكان الطواف داخل المسجد ، فلو طاف من وراء السواري أو من وراء زمزم أجزأه ، وإن طاف من وراء المسجد لا يجوز وعليه الإعادة . وفي موضع : إن كانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه ، يعني بخلاف ما لو كانت حيطانه منهدمة ، والأول أصوب .

يعني وقع ذكر الحيطان في ظاهر الرواية لكنه اتفاقي لا معتبر المفهوم لما يفهم من التعليل في أصل المبسوط ، فأما إذا طاف من وراء المسجد فكانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه لأنه طاف بالمسجد لا بالبيت ، أرأيت لو طاف بمكة كان يجزيه ; وإن كان البيت في مكة ، أرأيت لو طاف بالدنيا أكان يجزيه من الطواف بالبيت لا يجزيه شيء من ذلك فهذا مثله ا هـ .

ولا شك أن الطائف بمكة يقال فيه طائف بمكة وإن لم تكن حيطان سور ، وكذا بالمسجد ، وهذا لأن النسبة : أعني نسبة الطواف إلى الكعبة إنما تثبت بقرب منها مناسب ، ولولا أن المسجد له حكم البقعة الواحدة وإن انتشرت أطرافه لكان يناسب القول بعدم الإجزاء بالطواف في حواشيه تحت الأبنية للبعد الذي قد يقطع النسبة إليه ، حتى إن من دار هناك إنما يقال : كان فلان يدور في المسجد كأنه يتأمل بقعه وأبنيته ، ولا يقال في العرف : كان يطوف بالبيت .

وأول ما يبدأ به داخل المسجد الطواف محرما أو غير محرم دون الصلاة ، إلا أن يكون عليه صلاة فائتة أو خاف فوت الوقتية ولو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة فيقدم الصلاة في هذه الصور على الطواف ، كما لو دخل في وقت منع الناس الطواف فيه ، فإن لم يكن محرما فطواف تحية ، وإن كان بالحج فطواف القدوم إن كان دخوله قبل يوم النحر ، وإن كان فيه فطواف الفريضة يغني عنه ، ولو نواه وقع عن الفرض ، وإن كان بالعمرة فبطواف العمرة ، ولا يسن طواف القدوم له ، ولو نواه وقع عن العمرة . وينبغي أن يكون قريبا من البيت في طوافه إذا لم يؤذ أحدا .

والأفضل للمرأة أن تكون في حاشية المطاف ، ويكون طوافه من وراء الشاذروان كي لا يكون بعض طوافه بالبيت بناء على أنه منه . وقال الكرماني : الشاذروان ليس من البيت عندنا ، وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه ، والشاذروان هو تلك الزيادة الملصقة بالبيت من الحجر الأسود إلى فرجة الحجر . قيل بقي منه حين عمرته قريش وضيقت .

ولا يخفى أن ما لم يثبت ذلك بطريق لا مرد له كثبوت كون بعض الحجر من البيت ، فالقول قولنا لأن الظاهر أن البيت هو الجدار المرئي قائما إلى أعلاه . وينبغي أن يبدأ بالطواف من جانب الحجر الذي يلي الركن اليماني ليكون مارا على جميع الحجر بجميع بدنه فيخرج من خلاف من يشترط المرور كذلك عليه ، وشرحه أن يقف مستقبلا على جانب الحجر بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ثم يمشي كذلك مستقبلا حتى يجاوز الحجر ، فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت وهذا في الافتتاح خاصة .

وإذا أقيمت الصلاة المكتوبة أو الجنازة خرج من طوافه إليها ، وكذا إذا كان في السعي ، ثم إذا فرغ وعاد بنى على ما كان طافه ولا يستقبله ، وكذا إذا خرج لتجديد وضوء . ولا يكره الطواف في الأوقات التي تكره فيها الصلاة ، إلا أنه لا يصلي ركعتي الطواف فيها بل يصبر إلى أن يدخل ما لا كراهة فيه . ويكره وصل الأسابيع وهو مذهب عمر وغيره .

وعند أبي يوسف رحمه الله لا بأس به بشرط أن ينفصل عن وتر منها . ومع الكراهة لو طاف أسبوعا ثم شوطا أو شوطين من آخر ثم ذكر أنه لا ينبغي له أن يجمع بين أسبوعين لا يقطع الأسبوع الذي شرع فيه [ ص: 495 ] بل يتمه . ولا بأس بأن يطوف منتعلا إذا كانتا طاهرتين أو بخفه ، وإن كان على ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم كرهت له ذلك ولم يكن عليه شيء . والركن في الطواف أربعة أشواط ، فما زاد إلى السبعة واجب نص عليه محمد رحمه الله وسنذكر ما عندنا فيه .

وقيل : الركن ثلاثة أشواط وثلثا شوط . وافتتاح الطواف من الحجر سنة ، فلو افتتحه من غيره أجزأ وكره عند عامة المشايخ ، ونص محمد في الرقيات على أنه لا يجزيه فجعله شرطا . ولو قيل إنه واجب لا يبعد لأن المواظبة من غير ترك مرة دليله فيأثم به ويجزيه .

ولو كان في آية الطواف إجمال لكان شرطا كما قاله محمد رحمه الله لكنه منتف في حق الابتداء فيكون مطلق التطوف هو الفرض ، وافتتاحه من الحجر واجب للمواظبة ، كما قالوا في جعل الكعبة عن يساره حال الطواف أنه واجب ، حتى لو طاف منكوسا بأن جعلها عن يمينه اعتد به في ثبوت التحلل وعليه الإعادة ، فإن رجع ولم يعد فيه فعليه دم . وفي الكافي للحاكم الذي هو جمع كلام محمد : يكره له أن ينشد الشعر في طوافه أو يتحدث أو يبيع أو يشتري ، فإن فعله لم يفسد طوافه . ويكره أن يرفع صوته بالقرآن فيه ، ولا بأس في قراءته في نفسه ا هـ .

وفي المنتقى عن أبي حنيفة رحمه الله لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه ، ولا بأس بذكر الله . وصرح المصنف في التجنيس بأن الذكر أفضل من القراءة في الطواف ، وليس ينبو عما ذكر الحاكم لأنه لا بأس في الأكثر لخلاف الأولى ، ومنهم من فصل في الشعر بين أن يعرى عن حمد أو ثناء فيكره وإلا فلا . وقيل يكره في الحالين .

كما هو ظاهر جواب الرواية . والحاصل أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل ولم يثبت عنه في الطواف قراءة بل الذكر وهو المتوارث عن السلف والمجمع عليه فكان أولى . وأما كراهة الكلام فالمراد فضوله إلا ما يحتاج إليه بقدر الحاجة .

ولا بأس بأن يفتي في الطواف ويشرب ماء إن احتاج إليه ، ولا يلبي حالة الطواف في طواف القدوم ، ومن طاف راكبا أو محمولا أو سعى بين الصفا والمروة كذلك إن كان بعذر جاز ولا شيء عليه ، وإن كان بغير عذر فما دام بمكة يعيد ، فإن رجع إلى أهله بلا إعادة فعليه دم لأن المشي واجب عندنا ، على هذا نص المشايخ وهو كلام محمد . وما في فتاوى قاضي خان من قوله الطواف ماشيا أفضل تساهل أو محمول على النافلة . لا يقال : بل ينبغي في النافلة أن تجب صدقة لأنه إذا شرع فيه وجب فوجب المشي ، لأن الفرض أن شروعه لم يكن بصفة المشي والشروع إنما يوجب ما شرع فيه .

ولو طاف زحفا لعذر أجزأه ولا شيء عليه ، وبلا عذر عليه الإعادة أو الدم . ولو كان الحامل محرما أجزأه عن طوافه الموقت في ذلك الوقت فرضا كان أو سنة ، قيل إلا أن يقصد حمل المحمول فلا يجزيه بناء على أن نية الطواف الواقع جزء نسك ليست شرطا ، بل الشرط أن لا ينوي شيئا آخر ، ولذا لو طاف طالبا لغريم أو هاربا من عدو لا يجزيه ، بخلاف الوقوف بعرفة ، وسنذكر الفرق إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي .

والحاصل أن كل من طاف طوافا في وقته وقع عنه بعد أن ينوي أصل الطواف نواه بعينه أو لا ، أو نوى طوافا آخر لأن النية تعتبر في الإحرام لأنه عقد على الأداء فلا يعتبر في الأداء ، فلو قدم معتمر وطاف وقع عن العمرة ، وإن كان حاجا قبل يوم النحر وقع للقدوم ، وإن كان قارنا وقع الأول للعمرة والثاني للقدوم ، ولو كان في يوم النحر إذا طاف فهو للزيارة ، وإن طاف بعد ما حل النفر فللصدر ولو كان نواه للتطوع . قيل لأن غير هذا الطواف غير مشروع فلا يحتاج إلى نية التعيين ، ويلغو غيرها كصوم رمضان ويحتاج إلى أصلهما .

وتحقيقه أن خصوص ذلك الوقت إنما يستحق خصوص [ ص: 496 ] ذلك الطواف بسبب أنه في إحرام عبادة اقتضت وقوعه في ذلك الوقت فلا يشرع غيره كمن سجد في إحرام الصلاة ينوي سجدة شكر أو نفل أو تلاوة عليه من قبل تقع عن سجدة الصلاة لذلك الاستحقاق فكان مقتضى هذا أن لا يحتاج إلى نية أصلا كسجدة الصلاة ، لكن لما كان هذا الركن لا يقع في محض إحرام العبادة الذي اقترن به النية بل بعد انحلال أكثره وجب له أصل النية دون التعيين لأنه لم يخرج عنه بالكلية ، بخلاف الوقوف بعرفة . واعلم أن دخول البيت مستحب إذا لم يؤذ أحدا ، ثبت دخوله عليه الصلاة والسلام إياه على ما أسلفناه في باب الصلاة في الكعبة ، وأنه دعا وكبر في نواحيه .

وعن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام { من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له } رواه البيهقي وغيره . وينبغي أن يقصد مصلاه عليه الصلاة والسلام ، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا دخلها مشى قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع ، ثم يصلي يتوخى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقالت عائشة رضي الله عنها : عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله تعالى وإعظاما ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ، وكان البيت في زمنه على ستة أعمدة وليست البلاطة الخضراء بين العمودين مصلاه عليه الصلاة والسلام ، فإذا صلى إلى الجدار يضع خده عليه ويستغفر ويحمد ثم يأتي الأركان فيحمد ويهلل ويسبح ويكبر ويسأل الله تعالى ما شاء ويلزم الأدب ما استطاع بظاهره وباطنه وما تقوله العامة من العروة الوثقى وهو موضع عال في جدار البيت بدعة باطلة لا أصل لها . والمسمار الذي وسط البيت يسمونه سرة الدنيا يكشف أحدهم سرته ويضعها عليه فعل من لا عقل له فضلا عن علم

( قوله ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي ) لأنه عليه الصلاة والسلام إنما سعى في طواف العمرة المفردة : أعني عمرة القضاء والعمرة التي قرن إلى حجته ، فإنه عليه الصلاة والسلام حج قارنا على ما نبين في باب القران إن شاء الله تعالى ( قوله لما بينا ) ولم يقل لما روينا : أعني قوله عليه الصلاة والسلام { وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين } لأنه ذكر هناك [ ص: 497 ] وجه التمسك به للوجوب حيث قال : والأمر للوجوب ، فقوله لما بينا يشمل جميع المروي مع ما ذكر من وجه الاستدلال




الخدمات العلمية