الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 429 ] ( باب الإحرام )

( وإذا أراد الإحرام اغتسل أو توضأ والغسل أفضل ) لما روي { أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه } [ ص: 430 ] إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض ، وإن لم يقع فرضا عنها فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة ، لكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أتم ، ولأنه عليه الصلاة والسلام اختاره . قال ( ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزارا ورداء ) لأنه عليه الصلاة والسلام ائتزر وارتدى عند إحرامه ، ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد ، وذلك فيما عيناه ، والجديد أفضل لأنه أقرب إلى الطهارة .

قال ( ومس طيبا إن كان له ) وعن محمد رحمه الله : أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام ، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله ، لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام [ ص: 431 ] ووجه المشهور حديث { عائشة رضي الله عنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم } [ ص: 432 ] والممنوع عنه التطيب بعد الإحرام ، والباقي كالتابع له لاتصاله به ، بخلاف الثوب لأنه مباين عنه .

التالي السابق


( باب الإحرام )

حقيقته الدخول في الحرمة والمراد الدخول في حرمات مخصوصة : أي التزامها ، والتزامها شرط الحج شرعا غير أنه لا يتحقق ثبوته شرعا إلا بالنية مع الذكر أو الخصوصية على ما سيأتي ، وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به .

وإن أفسده إلا في الفوات فبعمل العمرة وإلا الإحصار فبذبح الهدي ، ثم لا بد من القضاء مطلقا وإن كان مظنونا ، فلو أحرم بالحج على ظن أن عليه الحج ثم ظهر له أن لا حج عليه يمضي فيه وليس له أن يبطله ، فإن أبطله فعليه قضاؤه . لأنه لم يشرع فسخ الإحرام أبدا إلا بالدم والقضاء ، وذلك يدل على لزوم المضي مطلقا ، بخلاف المظنون في الصلاة على ما سلف ( قوله لما روي إلخ ) أخرج الترمذي عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت { أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل } وقال : حديث حسن غريب .

قال ابن القطان : إنما حسنه ولم يصححه للاختلاف في عبد الرحمن بن أبي الزناد ، والراوي عنه عبد الله بن يعقوب المدني أجهدت نفسي في معرفته فلم أجد أحدا ذكره ا هـ لكن تحسين الترمذي للحديث فرع معرفته وعينه ، وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه ، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره ، فلما استوى به أحرم بالحج } وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

يعقوب بن عطاء ممن جمع أئمة الإسلام حديثه ، وأخرج أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم } وصححه على شرطهما وأخرجه ابن أبي شيبة والبزار .

وقول الصحابي من السنة حكمه الرفع عند الجمهور ، وينبغي أن يجامع زوجته إن كان مسافرا بها أو كان يحرم من داره لأنه يحصل به ارتفاق له أو لها فيما بعد ذلك ، وقد أسند أبو حنيفة رحمه الله عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه عن { عائشة رضي الله عنها [ ص: 430 ] قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف في نسائه ثم يصبح محرما } ورواه مرة { طيبت فطاف ثم أصبح } بصيغة الماضي ( قوله إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض ) قد تقدم في حديث جابر الطويل { فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ؟ فقال : اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي } ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم ولفظها { نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما بالشجرة } وهو شاهد لمطلوبية الغسل للحائض بالدلالة إذ لا فرق بين الحائض والنفساء أو النفاس أقوى من الحيض لامتداده وكثرة دمه ، ففي الحيض أولى .

وفي أبي داود والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال { إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت } وإذا كان للنظافة وإزالة الرائحة لا يعتبر التيمم بدله عند العجز عن الماء ويؤمر به الصبي .

ويستحب كمال التنظيف في الإحرام من قص الأظفار ونتف الإبطين وحلق العانة وجماع أهله كما تقدم ( قوله ولبس ثوبين إلخ ) وهذا هو السنة ، والثوب الواحد الساتر جائز ( قوله لأنه عليه الصلاة والسلام ائتزر ) في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما { انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة راكب راحلته حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه } الحديث .

وائتزر بهمزتين أولاهما همزة وصل ووضع تاء مشددة مكان الثانية خطأ ( قوله وهو قول مالك والشافعي ) وكذا قول زفر ( قوله ووجه المشهور ) [ ص: 431 ] في الصحيحين عن { عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم } وفي لفظ لهما { كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم } وفي لفظ لمسلم { كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي } وفي لفظ لهما قالت { كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك } وللآخرين ما أخرج البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية قال { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل متضمخ بطيب وعليه جبة فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب ؟ فقال له عليه الصلاة والسلام : أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك } وعن هذا قال بعضهم : إن حل الطيب كان خاصا به عليه الصلاة والسلام لأنه فعله ومنع غيره .

ودفع بأن قوله للرجل ذلك يحتمل كونه لحرمة التطيب ، ويحتمل كونه لخصوص ذلك الطيب ، بأن كان فيه خلوق ، فلا يفيد منعه الخصوصية ، فنظرنا فإذا في صحيح مسلم في الحديث المذكور " وهو مصفر لحيته ورأسه " وقد نهى عن التزعفر لما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن التزعفر } وفي لفظ لمسلم { نهى أن يتزعفر الرجل } وهو مقدم على ما في أبي داود { أنه عليه الصلاة والسلام كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران } وإن كان ابن القطان صححه ، لأن ما في الصحيحين أقوى خصوصا ، وهو مانع فيقدم على المبيح .

وحينئذ فالمنع من خصوص الطيب الذي به في قوله " أما الطيب الذي بك " إذا ثبت أنه نهى عنه مطلقا لا يقتضي المنع عن كل طيب ، وقد جاء مصرحا في الحديث في مسند أحمد { قال له : اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك هذا الزعفران } ومما يدل على عدم الخصوصية ما في أبي داود { عن عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا } وعن الشافعي أن حديث الأعرابي منسوخ ، لأنه كان في عام الجعرانة وهو سنة ثمان ، وحديث عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع سنة عشر .

ورئي ابن عباس رضي الله عنهما محرما وعلى رأسه مثل الرب من الغالية . وقال مسلم بن صبيح : رأيت ابن الزبير محرما وفي رأسه ولحيته عن الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال ، قال المنذري : وعليه أكثر الصحابة رضي الله عنهم . قال الحازمي : وما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر : أن عمر رضي الله عنه وجد ريح طيب من معاوية وهو محرم ، فقال له عمر : ارجع فاغسله ، فإن عمر رضي الله عنه لم يبلغه حديث عائشة رضي الله عنها وإلا لرجع إليه ، وإذا [ ص: 432 ] لم يبلغه فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثبوتها أحق أن تتبع .

وحديث معاوية هذا أخرجه البزار وزاد فيه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الحاج الشعث التفل } وللاختلاف استحبوا أن يذيب جرم المسك إذا تطيب به بماء ورد ونحوه ( قوله والممنوع منه التطيب ) لأنه فعل المكلف والأحكام إنما تتعلق به ولم يتطيب بعد الإحرام لكن هم يقولون هذا الممنوع منه بعد الإحرام .

وهناك منع آخر قبله عن التطيب بما يبقى عينه . وحاصل الجواب : منع ثبوت هذا المنع ، فإن قستم على الثوب فهو في مقابلة النص لما ذكرنا من وروده به في البدن ولم يرد في الثوب فعقلنا أنه اعتبر في البدن تابعا ، والمتصل في الثوب منفصل عنه فلم يعتبر تبعا ، وهذا لأن المقصود من استنان الطيب عند الإحرام حصول الارتفاق به حالة المنع منه على مثال السحور للصوم إلا أن هذا القدر يحصل بما في البدن ، فيغني عن تجويزه في الثوب إذ لم يقصد كمال الارتفاق في حالة الإحرام لأن الحاج الشعث التفل وقد قيل : يجوز في الثوب أيضا على قولهما




الخدمات العلمية