الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها لهم ، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا بقرابينهم عما شرعت لهم من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده ، فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين ، وينذرونها لأولئك القديسين ، وذلك كله من عبادة الشرك ، فمن فعلها من المسلمين فله حكم من فعلها من أولئك المشركين ، كما تقدم تفصيله في تفسير ما أهل به لغير الله من هذه السورة " الآية : 145 " وسورتي البقرة " الآية : 173 " والمائدة " الآية : 3 " . وما تأويل بعض المعممين لهم إلا كتأويل من سبقهم من الرهبان والقسيسين .


                          وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها



                          والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقربا إليه وتعظيما له وطلبا لمثوبته ومرضاته ، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له ، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا ، فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم ، فإن توجه أحد إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو غيرهم مما يستعظم خلقه كان مشركا ، والله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم .

                          إن كون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد [ ص: 215 ] من ضروريات الدين . وأما المحيا والممات فهما مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت ، وزعم الرازي أن معنى كونهما مع الصلاة والنسك لله أنه هو الخالق لذلك ، وأن هذا دليل على قول أصحابه الأشعرية أن أفعال العباد مخلوقة لله وليس للعباد فيها تأثير . وهذا من أغرب ما انفرد به من السخف بعصبية المذهب مع الغفلة عن منافاة قوله : ( وبذلك أمرت ) له ، وعن كونه ليس مما يختلف فيه المؤمن الموحد والمشرك ، فلا يصح أن يكون هو المراد في بيان تقرير حقيقة التوحيد . والمتبادر أن معنى كون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وموته - وكذا من تأسى به - لله وحده هو أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته تعالى ، وبذلها في سبيله ليموت على ذلك كما يعيش عليه . وفي الكشاف أن معناه وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله لله رب العالمين . زاد البيضاوي : أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما اهـ . ويزاد في الأعمال التي تضاف إلى الموت كل ما يبتدئ ثوابه به كالصدقة الجارية المعلقة على الموت وما يستمر بعده - وإن وجد قبله - كالصدقات الجارية المبتدأة في عهد الحياة ، والتصانيف التي ينتفع بها الناس . وبهذا تكون الآية جامعة لجميع الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته‌ وذخيرته لمماته ، يجعلها خالصة لله رب العالمين . ولفظ الجلالة " الله " و " رب العالمين " لم يكن المشركون يطلقونهما على معبوداتهم ولا معبودات غيرهم المتخذة التي أشركوها مع الخالق سبحانه وتعالى : ، وقد قرأ نافع ( محياي ) بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف ، وهو مما كان يجري على ألسنة بعض العرب ولا يزال جاريا على ألسنة العراقيين حتى في الشعر .

                          فتذكر أيها المؤمن أن الذي يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله ، يتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله ويطلب الكمال في ذلك لنفسه ، ليكون قدوة في الحق والخير في الدنيا ، وأهلا لرضوان ربه الأكبر في الآخرة . ثم يتحرى أن يموت ميتة مرضية لله تعالى ، فلا يحرص على الحياة لذاتها ، ولا يخاف الموت فيمنعه الخوف من الجهاد في سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة ميزان العدل ، والأخذ على أيدي أهل الجور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهذا مقتضى الدين يقوم به من يأخذه بقوة ، ولا يفكر فيه من يكتفون بجعله من قبيل الروابط الجنسية ، والتقاليد الاجتماعية ، فأين أهل المدنية المادية من أهل الدين إذا أقاموه كما أمر الله ؟ أولئك الماديون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا التمتع بالشهوات الحيوانية ، والتعديات الوحشية . يعدو الأقوياء منهم على الضعفاء لاستعبادهم ، وتسخيرهم لشهواتهم ومنافعهم . ولكن المنتمين إلى الدين في هذه القرون الأخيرة [ ص: 216 ] قد تركوا هدايته ، وفتنوا بزينة أهل المدنية المادية وقوتهم . ولم يجاروهم في فنونهم وصناعاتهم ، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، ولو اعتصموا بحبله المتين ، وعادوا إلى صراطه المستقيم لنالوا سيادة الدنيا وسعادة الآخرة وذلك هو الفوز العظيم ، وعسى أن يكون الزمان قد أيقظهم من رقادهم ، وهداهم إلى السير على سنن أجدادهم ، وما ذلك على الله بعزيز .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية