الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) أي قال تعالى له : ما منعك من امتثال الأمر فحملك على ألا تسجد لآدم مع الساجدين في الوقت الذي أمرتك فيه بالسجود ؟ واستدل علماء الأصول بهذا على أن الأمر يقتضي الوجوب على الفور ، ( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) أي منعني من ذلك أنني أنا خير منه ؛ لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين ، والنار خير من الطين وأشرف ، ولا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه ويعظمه ، أي وإن أمره بذلك ربه ، وهذا الجواب يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح ، ما أوقع اللعين فيها إلا حسده وكبره فإنهما يعميان البصائر .

                          ( الأول ) الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه ، ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله تعالى فيما لا يوافق هواه ، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه ، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء ، وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه ، مكتفيا قبل ذلك بأن الله تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه ، وحكم شرعه ، وفوائد أمره ونهيه .

                          ( الثاني ) الاحتجاج عليه بما يؤيد به اعتراضه ، والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه ، بل يعلم أن لله الحجة البالغة .

                          ( الثالث ) جعل امتثال أمر الرب تعالى مشروطا باستحسان العبد له وموافقته لرأيه وهواه ، وهو رفض لطاعة الرب ، وترفع عن مرتبة العبد ، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند ، وهو في حكم الدين كفر ، وفي العقل حماقة وجهل ، فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرءوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم ، وآراءهم ، لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط ، وينكسر الجيش ويهلك ، وتنحل الشركة وتفلس ، وهكذا يقال في كل مصلحة يقوم بإدارتها كثرة ، يرجع نظامها إلى جهة [ ص: 294 ] واحدة ، كبوارج الحرب وسفن التجارة ومعامل الصناعة ، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه ، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به ، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده ؟ ! ويشارك إبليس في هذا الجهل وما قبله كثيرون ممن يسمون أنفسهم مؤمنين : يتركون طاعة الله تعالى فيما أمر به مما يخالف أهواءهم ، ويحتجون على ترك الصيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع والعطش ، أو بأن الله غني عن صيامهم ! ! على أن حكم الصيام كثيرة جلية كما بيناها مرارا في التفسير ( ص117 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ) . وفي المنار .

                          روى أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له اسجد لآدم فقال أنا خير منه " . إلخ . قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس . وروى ابن جرير عن الحسن . أول من قاس إبليس .

                          ( الرابع ) الاستدلال على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين . وهذا جهل ظاهر من وجوه : ( أحدها ) أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان ، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء . وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة يرجح أنها متحولة عن أصل واحد كما يعلم من فن الكيمياء .

                          ( ثانيها ) أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس ، فالمسك من الدم ، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم ، والأقذار التي تعاف من مادة الطعام الذي يشتهى ويحب .

                          ( ثالثها ) أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من مارج من نار ، وهو اللهب المختلط بالدخان فما فوقه دخان وما تحته لهب صاف ، فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب .

                          ولا شك في أن النور خير من النار ، والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان . وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله تعالى فكان هو أولى ، بل أولى بأن يقال له : أولى لك فأولى .

                          ( الخامس ) إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره ، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه - فلا نسلم أن النار خير من الطين ، فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة ، وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول ، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها .

                          [ ص: 295 ] ( السادس ) أن اللعين غفل عما خص الله به آدم من خلقه بيده ، والنفخ فيه من روحه ، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه ، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، وجعله بتلك المزايا أفضل من أولئك الملائكة ، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة .

                          فهذه أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له . وأنت ترى أن أولياءه ونظراءه من شياطين الإنس مرتكسون فيها كلها والعياذ بالله تعالى ، قال قتادة : حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة وقال : أنا ناري وهذا طيني ، فكان بدء الذنوب الكبر ، واستكبر عدو الله أن يسجد لآدم فأهلكه الله بكبره وحسده ، وسيأتي تفسير الكبر والتكبر .

                          وهذا التفصيل مبني على كون الأمر بالسجود للتكليف ، وأنه وقع حوار فيه بين الرب سبحانه وبين إبليس ، وأما على القول بأن الأمر للتكوين ( كما سيأتي عن ابن كثير ) وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان ، فالمعنى أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها ، كما قال تعالى : ( فالمدبرات أمرا ) ( 79 : 5 ) مسخرة لآدم وذريته ، إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن الله تعالى فيها ، وبعمله بمقتضى هذه السنن كخواص الماء والهواء والكهرباء والنور والأرض معادنها ونباتها وحيوانها ، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها ، ومستعدا لاصطفاء الله بعض أفراده ، واختصاصهم بوحيه ورسالته ، وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه . وقد أشير إلى ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ( 2 : 31 ) إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمردا على الإنسان بل عدوا له ، من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم - وهم الشياطين - التمرد والعصيان ، وقد أعطى الإنسان إرادة واختيارا من ربه في ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة ، وما به يهبط إلى أفق الشياطين ، وسيأتي تفصيل ذلك في هذا السياق .

                          وفي الآية من المباحث اللغوية زيادة " لا " في جملة " ما منعك ألا تسجد " إذ قال في سورة " ص " : ( ما منعك أن تسجد ) ( 38 : 75 ) وقد عهد في الكلام العربي الفصيح أن تجيء " لا " في سياق النفي الصريح وغير الصريح لتقويته وتوكيده ، وكذا في غير النفي وذلك على أنواع منها هذه الآية . وفي معناها قوله تعالى في تحاور موسى وهارون من سورة طه : ( قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري ) ( 20 : 92 ، 93 ) وعدوا من هذا القبيل قوله تعالى : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ( 6 : 109 ) ، [ ص: 296 ] وقوله عز وجل : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) ( 6 : 151 ) وفي كل منهما معنى النفي وتقدم تفسيرها .

                          ومنهم من خرج هذه الآيات وأمثالها من الشواهد على جعل " لا " غير زائدة وهي طريقة شيخنا رحمه الله . وتقدم ما اخترناه في آيتي الأنعام وأشرنا آنفا في هذه الآية إلى أن منع هنا تتضمن معنى الحمل ، والتضمين كثير من التنزيل وكلام العرب ولكن لم يجعله النحويون قياسا ، ويستدل عليه كثيرا بالتعدية كما بيناه في تفسير : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ( 4 : 2 ) إذ ضمن الأكل معنى الضم فعدي ب " إلى " ، ويقرب منه تعبير سورة الحجر : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) ( 15 : 32 ) والتقدير : أي شيء عرض لك فحملك على ألا تكون معهم . واختار ابن جرير تضمين المنع هنا معنى الإلزام والاضطرار ، فيكون التقدير : ما ألزمك أو اضطرك إلى ألا تسجد .

                          ومن مباحث البلاغة أن الفصل في حكاية السؤال والجواب جميعا بـ " قال " وارد على طريقة الاستئناف البياني فإن من يسمع السؤال يتشوق لمعرفة الجواب . وينزل منزلة من يسأل عنه فيجاب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية