الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فإن قيل : إن ما ذكرت من أسباب هلاك الأمم بالظلم والفساد والانغماس في حمأة الرذائل والفسق قد بلغ من أمم أوربة مبلغا عظيما ، فما بالها تزداد قوة وعزة وعظمة . حتى صارت الأمم المغلوبة على أمرها ، ولا سيما المستذلة لها ، تعتقد أن تقليدها في مدنيتها المادية وحرية الفسق المطلقة من كل قيد - إلا تعدي الفرد على حرية غيره - هو الذي يجعلها عزيزة سعيدة مثلها .

                          قلنا : إن تأثير الفسق والفساد في الأمم يشبه تأثيره في الأفراد ، ومثله ما ذكرنا آنفا من اختلاف الأبدان والأمزجة في احتمال الأمراض ، واختلاف وسائل المعيشة والعلاج ، فأطباء الأبدان مجمعون على مضار السكر الكثيرة وكونها سببا للأمراض البدنية والعقلية المفضية إلى الموت ، وإننا نعلم أن تأثيرها في البدن القوي دون تأثيرها في البدن الضعيف ، فإن القليل منها يبطئ تأثير ضرره عن تأثير الكثير ، وأن بعضها أضر من بعض ، وأطباء الاجتماع مجمعون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم ، وأن الظلم والبغي بغير الحق ، والغلو في المطامع والعلو في الأرض ، والتنازع على الاستعمال ، كل ذلك من أسباب الهلاك والدمار ، ولكن لدى هذه الدول كثيرا من القوى المعنوية والمادية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأدواء الاجتماعية ، كالأدوية وطرق الوقاية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه [ ص: 361 ] الأمراض الجسدية ، والرياضة الشاقة التي يتقى بها إضعاف الترف للأبدان . وأعظم هذه القوى الواقية للأمم النظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في نفس الظلم ، وفي إخفائه عمن يضر الظالمين علمهم به ولو من أقوامهم ، وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس ظلمهم لباس العدل ، وجعل باطلهم عين الحق ، وإبراز إفسادهم في صورة الإصلاح ، وإيجاد أنصار لهم عليه من المظلومين ، بل إقناع الكثيرين منهم ، بأن سيادتهم عليهم خير لهم من سيادتهم لأنفسهم ، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا ، وما أحسن قول الشاعر المصري في تفريقه بين ما كان من الظلم الوطني وما هو كائن من الظلم الأجنبي في مصر وأمثالها .


                          لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما



                          وقد قلت للأستاذ الإمام مرة : ما بال باطل هؤلاء الإفرنج في شئونهم السياسية والدينية ثابتا ناميا لا يدمغه الحق ؟ - أو ما هذا معناه - فقال : إنه ثابت بالتبع للنظام الذي هو أقوى الحق ، أي فهو يزول إذا قذف عليه بحق مؤيد بنظام مثله أو خير منه ، فهذا ما ينبغي أن يعمل له المستعبدون لهم في الشرق ، مع مباراتهم في العلوم والفنون دون الترف والفسق .

                          بيد أن هذا كله لا يمنع انتقام الله منهم ، وإنما يجري على مقتضى سننه في تأخيره عنهم ، فهو مثل من أمثال استئخار العذاب بأسباب تأخير الأجل ، وليس من أسباب منعه . فإنما منعه بالرجوع إلى الحق والعدل والاعتدال ، والصلاح والإصلاح . وإن حكماءهم وعلماءهم يعلمون ذلك وقد نقلنا بعض أقوالهم في المنار ، ومنها قول بعضهم لنا في مدينة ( جنيف - سويسرة ) إن كثيرا من العقلاء يتوقعون قرب هلاك أوربة في حرب عاجلة شر من الحرب الأخيرة التي فقدت بها ألوف الألوف من قتلى المعارك ، ومثلهم ما بين قتيل مرض أو مخمصة ، ومشوه أضحى عالة على الوطن . وإنهم يرجحون ألا يعدو هلاكها هذا الجيل . ومنها ما قاله أحد ضباط الإنكليز في أثناء الحرب من حديث دار بينهم في عمر الإمبراطورية البريطانية ، وهو أنه قد دب إليها الفساد الذي ذهب بإمبراطورية الرومان ، وأنهم يقدرون أنها قد تعيش ثمانين عاما . وقد كنت منذ أيام أتحدث مع بعض أذكياء اليهود في مفاسد الفرنسيس وقلة نسلهم . فقلت له : إنني أظن أن أجلهم لا يتجاوز هذا الجيل . فقال : إنهم يقدرون لأنفسهم جيلين اثنين . كل هذه التقديرات من الرجم بالغيب . وإنما الأمر الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم ، أو الإلمام بعلم الاجتماع وسنن العمران لا في الغرب ولا في الشرق ، هو أن إسراف شعوب أوربة في الفسق ، وإصرار حكوماتها على سياسة الإفراط في الطمع والمكر ، والتلبيس والتنازع على الاستعمار والعلو في الأرض ، وتأييد الأفراد من أصحاب المال ، على الجماهير من العمال - كل ذلك من دود الفساد المفضي إلى [ ص: 362 ] الهلاك . وليراجع من شاء ما دار بيني وبين ذلك السياسي السويسي في هذا الموضوع من رحلتي الأوربية في المنار ( ج 8 م 23 ) .

                          على أن الحرب الأخيرة قد ثلت عرش قياصرة الروس والنمسة ، ومزقت ممالكهما كل ممزق ، كما مزقت سلطنة آل عثمان فجعلتها في خبر كان . وأسقطت عرش عاهل الألمان ، وصارت دولتهم جمهورية ، وثلت عروش ملوك آخرين ، وما بقي من الدول والأمم في أوربة لم يتعظوا ولم يزدجروا ، ولكل أمة أجل .

                          فإن قيل : إذا كان علماء الاجتماع والأخلاق وفلاسفة التاريخ من هؤلاء الأقوام يعلمون أنه قد دب إليهم داء الأمم الذي هلك به من قبلهم وينذرونهم ذلك ، فكيف لا يتعظون ولا يتوبون من ذنبهم ، ولا يثوبون إلى رشدهم ؟ .

                          قلنا : إن أمرنا في ذلك أعجب من أمرهم ، فقد أنذرنا ربنا في كتابه مثل هذا في أمر دنيانا وآخرتنا جميعا ، ولكلام الله تعالى من السلطان على قلوب المؤمنين ، ما ليس لكلام العلماء عند الماديين ، فمنا ومنهم من لا يسمع النذر ، ومن لا يعقلها إذا سمعها ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) ( 8 : 23 ) ومن يتمارون بها أو يتأولونها ، ومن تغرهم أنفسهم بأنهم يتقونها ، فتعدوهم أو يعدونها ، ومن يجهلون علاج العلة أو يعجزون عنه ، ومتى أزمن الداء بطل فعل الدواء ، وإذا تمكنت الأهواء في الأنفس وصارت ملكات لها ، ملكت عليها أمرها ، وغلبتها على اختيارها ، وهذا مشاهد في الأفراد والأمم أولى به منها . فإنك ترى بعض الأطباء يسكرون وهم على يقين من ضرر السكر ، ولكن داعيته أرجح في النفس من وازع العقل والفكر . عذرت طبيبا على الشرب مذكرا له بما يعلم من ضره - فقال لأن أعيش عشرا بلذة آثر عندي من أن أعيش عشرين محروما منها . فقلت : لو كان هذا مضمونا لك ، لجاز أن يقبل منك ، ولكن علمكم يقتضي خلافه . فما يدريك لعل الخمر تحدث لك من الأسقام ما تعيش به العشرين في أشد الآلام ؟ فسكت . وقد ابتلي بالصرع وغيره ولكنه لم يتب .

                          وها نحن أولاء قد كنا بهداية ديننا أمة عزيزة قوية متحدة ، فمزقتنا الأهواء فضعفنا ثم ساعد الزمان بعض شعوبنا فاعتزت وعلت ثم انخفضت وضعفت ، وقد قام منا من ينذرنا ويذكرنا بآيات ربنا ويدعونا بها إلى ما يحيينا فأعرض أمراؤنا وعلماؤنا ومن ورائهم دهماؤنا ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر ) ( 54 : 4 ، 5 ) ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ( 10 : 101 ) .

                          [ ص: 363 ] هذا - وقد بحث المفسرون هنا في آجال الأفراد وما يتعلق بها ، ولا شك في أن لكل فرد أجلا في علم الله وفي تقديره ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ( 6 : 2 ) فأما الذي في علمه تعالى فلا يتغير ، ولا يقتضي هذا نفي الأسباب والمسببات ، ولا كون الناس مجبورين لا اختيار لهم في أمور الحياة والممات ، فإن كلا من هذين حق ثابت بالحس والضرورة وبالوحي جميعا والحق الواقع مثال ومصداق لما في العلم وليس العلم فاعلا فيه وإنما هو كاشف له .

                          وأما الأجل المقدر بمقتضى نظام الخلق فهو الذي يعبر عنه علماء الدنيا بالعمر الطبيعي وهو مائة سنة في متوسط تقدير أطباء عصرنا . وهم يقدرون لكل فرد عمرا بعد الفحص عن قوة جسمه وأعضائه الرئيسة ووظائفها ، ويشترط في صحة التقدير أن يعيش بنظام واعتدال وتقوى ، فإذا أخل بذلك اختل التقدير وبعد عن الحقيقة الثابتة في علم الله تعالى وإلا كان قريبا منها بحسب ما علم من سننه تعالى . ومن قتل أو غرق مثلا قبل انتهاء العمر المقدر له يقال إنه مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري . ولكن بأجله الحقيقي عند الله تعالى . وكل ما ورد في نقص العمر وإطالته والإنساء فيه بالأسباب العملية والنفسية كصلة الرحم والدعاء فإنما هو بالنسبة إلى الأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو عبارة عن مظهر سنن الله في الأسباب والمسببات ، فإن صلة الرحم من أهم أسباب هناء المعيشة ، وهناء المعيشة من أهم أسباب طول العمر . وكذلك الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان بالله والرجاء في معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يضعف عنه أو يعجز عن أسبابه ، ومن الأمور الثابتة بالتجارب المطردة أن الهموم والأكدار ولا سيما الداخلي منها كقطيعة الأرحام ، واليأس من روح الله القادر على كل شيء عند تقطع الأسباب ، يضعفان قوى النفس الحيوية ويهرمان الجسم قبل إبان الهرم كما قال الشاعر :


                          والهم يخترم الجسيم نحافة     ويشيب ناصية الصبي ويهرم



                          وللهموم أسباب كثيرة تدخل في هذا الباب ، ومثلها في تقصير العمر الطبيعي قلة الغذاء الذي يحتاج إليه البدن والإسراف فيه وفي كل لذة . وكذا في الراحة والتعب وكثرة التعرض للنجاسة والسكنى في الأمكنة القذرة التي لا تصيبها الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يكفي لامتصاص الرطوبات وقتل جراثيم الفساد فيها ، والأمم العليمة بالسنن الإلهية في الصحة والسقم والقوة والضعف تحصي دائما عدد المرضى والموتى فيها ، وتضع لها نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال في كل منها ، وقد ثبت بها ثبوتا قطعيا أن من أسباب قلة الوفيات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها ، والتوقي من الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها بقدر الإمكان ومعالجتها بعد طروئها كذلك . وكل ما ثبت ووقع فهو دليل على أن [ ص: 364 ] العلم الإلهي قد سبق به ، ولا شيء مما ثبت في الواقع بناقض لشيء مما ورد في نص كتاب ربنا تعالى وما صح من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بل هو موافق له ، وهذا من حجج كون هذا الدين من علم الله تعالى ؛ إذ لا يمكن لبشر أن يقرر هذه المسائل الكثيرة في العلوم المختلفة على وجه الصواب الذي لا يزيده ترقي علوم البشر وتجاربها إلا تأكيدا ، وناهيك بما جاء على لسان نبي أمي نشأ بين الأميين ، وسنعود إلى مثل هذا البحث في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية أن العطف في قوله تعالى : ( ولا يستقدمون ) مستأنف لبيان ما تتم به الفائدة وإلا وجب أن يكون معطوفا على الجملة الشرطية لا الجزائية فيكون حاصل المعنى : ولكل أمة أجل لا يتأخرون عنه إذا جاء ، وهم لا يتقدمون عليه أيضا بأن يهلكوا قبل مجيئه . ولا يظهر معنى لعطفه على ( لا يستأخرون ) الذي هو جزاء قوله : ( فإذا جاء أجلهم ) إلا بتكلف ، والمعنى على هذا موافق لقوله تعالى : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ( 23 : 43 ) وأما حكمة العدول عن الترتيب الطبيعي هنا فهي إفادة أن تأخير الأجل أو تأخير الهلاك قبل حلول أجله ممكن للأمة التي تعرف أسبابه وتملك العمل بها ، كترك الظلم والبغي والفجور إلى أضدادها وهو يتضح بما ضربنا لها من الأمثال آنفا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية