الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) أفاد هذا التعبير بالفعل المبني للمجهول أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار . فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم ، أي حولت إلى الجهة التي تلقاهم وتبصرهم فيها - وإنما يكون ذلك عن غير توخ ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها أو بمقتضى سرعة تحولها من جهة إلى جهة - قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين حيث هم ولا حيث يكونون . وهذا الدعاء لا يظهر صدوره من الملائكة إلا بتأويل أن المراد به استعظام حال الظالمين واستفظاع مآلهم ، لا حقيقة الدعاء ، ويجاب بهذا الأخير من أنكر أن يكون الأنبياء هم أصحاب الأعراف .

                          والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم وكانوا موقوفين [ ص: 387 ] مجهولا مصيرهم . روى ابن جرير عن شعبة أن حذيفة رضي الله عنه ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم : فاذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم . وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال يحاسب الله الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول الله : ( فمن ثقلت موازينه ) الآيتين ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح . قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا : سلام عليكم ، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا : ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) تعوذوا بالله من منازلهم ( قال ) : فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورا ، وكل أمة نورا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة . فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون ( يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ) ( 66 : 8 ) وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع من أيديهم فهنالك يقول الله تعالى : ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) فكان الطمع دخولا ( قال سعيد ) فقال ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة . ثم يقول : هلك من غلب وحدانه أعشاره اهـ .

                          فهذا أوضح بيان مفصل للقول الذي اعتمده الجمهور ، وللأثرين الموقوفين فيه قوة الحديث المرفوع ، وظاهره أن هذا كله يقع بعد الموقف وقيل أن يجعل هؤلاء الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم على الأعراف ، فإن السور الذي فسرت الأعراف به أو بأعياله يضرب بعد ذهابهم من الموقف يسيرون بنورهم إلى الجنة كما هو ظاهر آية سورة الحديد ، وقد ذكرناها عند تفسير كلمة الأعراف ، وفيه أنه تعالى ذكر معرفتهم لأصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم ونداءهم بالسلام على أهل الجنة بعنوان أنهم أصحاب الأعراف ، ولا يصح هذا العنوان قبل وجودهم عليها إلا إذا ثبت أنهم يسمون أصحابها قبل ذلك ، أو على التأويل بجعله من مجاز الأول كقوله : ( أعصر خمرا ) ( 12 : 36 ) ويجاب عن تخصيص الرجال بالذكر بأنهم هم الذين يخاطبون أهل الجنة وأهل النار دون من معهم من النساء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية