الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون )

                          ما تقدم من بيان الجزاء وحال أهل الجنة وأهل النار إنذار عام وموضوعه عام ، إلا أنه ألقى بادي بدء على أهل مكة ومن وراءهم من العرب ، فلهذا جوز المفسرون في ضمائر هاتين الآيتين أن تكون عامة تشمل الأمم السالفة ويكون الكتاب في الأولى منهما للجنس ، وأن تكون خاصة بهذه الأمة ، وموقعها مما قبلها على الوجهين واحد ، وهو بيان حجة الله على [ ص: 393 ] على البشر كافة ، وإزاحة علل الكفار وإبطال معاذيرهم إن لم يستعدوا لذلك الجزاء بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل ، والمختار عندنا الثاني . قال عز وجل :

                          ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ) أي ولقد جئنا هؤلاء الناس بكتاب عظيم الشأن ، كامل التبيان ، وهو القرآن . فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل لتزكية أنفسهم ، وتكميل فطرتهم ، وسعادتهم في معاشهم ومعادهم ، حال كونه أو لأجل أن يكون بذلك منار هداية عامة وسبب رحمة خاصة لقوم يؤمنون به إيمان إذعان يبعث على العمل بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه ، وهو بهذا التفصيل العلمي حجة على من لا يؤمنون به إذا لم يهتدوا به ، ولم يرضوا لأنفسهم أن تكون أهلا لرحمته .

                          التفصيل عبارة عن جعل الحقائق والمسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل الاشتباه ، واختلاط بعضها ببعض في الأفهام ، وليس معناه ذكر كل نوع منها على حدته ولا التطويل ببيان جميع فروعه ، ففي القرآن تفصيل كل شيء نحتاج إليه في أمر ديننا : أسهب حيث ينبغي الإسهاب ، وأوجز حيث يكفي الإيجاز .

                          مثال ذلك في العقائد أن البشر قد فتنوا بالشرك ، ولبس على أكثرهم الأمر ففرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية ، إذ ظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الخلق ومدبر أموره هو الواجب له الممتنع أن يكون له شريك فيه ، دون توحيد الإلهية وهو عبادته وحده ، وأنه لا يضر التوجه إلى غيره من المقربين عنده ، المقربين من يتوسل بهم إليه كما يتوجه إليه بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب ، وهذا مخ العبادة ومحضها ، وكل من يدعي مثل هذا الدعاء فقد اتخذ معبودا وإلها . وشبهتهم في القديم والحديث أن اتخاذ ولي مع الله بقصد التقرب والتوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه . وأن المحظور هو الاستغناء به عنه ، مأخذ هذا ما يعهدون من الملوك الظالمين الذين يتقرب إليهم الرعايا الضعفاء المستذلون بوزرائهم ويتوسلون إليهم بحواشيهم وحجابهم ، فلأجل هذه الشبهات قرر القرآن إبطال هذا الشرك وأطنب في تفصيله كل الإطناب .

                          ومثاله في العبادات العملية أن صفة الصلاة وعدد ركعاتها مما يكفي فيه القدوة والتأسي بالرسول الموكول إليه بيان التنزيل ، فلهذا لم يبينها القرآن على الوجه الذي تؤدى به ، ولكنه كرر الأمر بإقامتها أي الإتيان بها على أقوم وجه وأكمله ، وبين حكمتها وفائدتها في عدة آيات لأن معنى الإقامة لها والحكمة في وجوبها مما يغفل عنه أكثر الناس .

                          ومثاله في العلم الذي هو أساس الإيمان الصحيح والارتقاء في الدين والدنيا أن أكثر البشر كانوا قد ألفوا فيه التقليد والأخذ بأقوال من يثقون بهم من آبائهم ورؤساء دينهم ودنياهم ؛ فلهذا [ ص: 394 ] كرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين ، وجهل الظانين والمرتابين ، وكرر الحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان ، والتشنيع على المعرضين عن آيات السماوات والأرض وما فيها من جماد ونبات وحيوان ، وعن حكمه الخاصة في خلق الإنسان ، فبمثل هذا التفصيل كان الإسلام دين العلم والعقل وكان القرآن ينبوع الهدى والحكمة والرحمة فيا حسرة على المحرومين من رحمته ويا شقاء الطاعنين في هدايته .

                          ( هل ينظرون إلا تأويله ) أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله . وهو ما يؤول إليه ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا ثم في الآخرة . فالنظر هنا بمعنى الانتظار . وتأويل الكلام كتأويل الرؤيا هو عاقبتهما . والمآل الذي يتحقق به المراد منهما ، وتقدم في أول تفسير آل عمران تفصيل الكلام فيه . روي عن قتادة في تفسير : ( هل ينظرون إلا تأويله ) قال : عاقبته ، وعن السدي قال : عواقبه ، مثل وقعة بدر ويوم القيامة وما وعد فيه من موعد ، وعن الربيع بن أنس قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ إلخ فجمع كلامه كل ما له مآل ينتظر من أخبار القرآن الصادقة التي وعد وأوعد بها كلا من المؤمنين من نصر وثواب ، والكافرين من خذلان وعقاب ، وغير ذلك من أنباء الغيب .

                          ( يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل ) أي يوم يأتي تأويله ونهايته في يوم القيامة وتزول كل شبهة ، يقول الذين نسوه في الدنيا أي تركوه كالمنسي فلم يهتدوا به : ( قد جاءت رسل ربنا بالحق ) أي بالأمر الثابت المتحقق فتمارينا به وأعرضنا عنه ، حتى جاء وقت الجزاء عليه ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ) أي يتمنون أحد هذين الأمرين فالاستفهام هنا للتمني ، ويحتمل أن يكون على أصله فيقع قبل دخول النار . وبعد اليأس فيها من الشفعاء ، حيث يقولون فيها كما في سورة الشعراء : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ) ( 26 : 100 - 102 ) وقد تقدم في سورة الأنعام أنه يقال لهم : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) ( 6 : 94 ) الآية - وإنما يتمنون الشفعاء أو يتساءلون عنهم أولا لأن قاعدة الشرك الأساسية أن النجاة عند الله وكل ما يطلب منه إنما يكون بواسطة الشفعاء عنده ، وعندما يتبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة والسعادة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ، ويعلمون هنالك أن الشفاعة لله وحده فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 ) يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى ، لأجل أن يكونوا أهلا لمرضاته تعالى بأن يعملوا بما أمرتهم به رسله عليهم السلام . وقد تقدم في ( آيتي 27 ، 28 ) من سورة الأنعام تمنيهم [ ص: 395 ] لو يردون إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين ، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) هذا بيان من الله تعالى لحالهم وغاية تمنيهم يقول : قد خسروا أنفسهم في الدنيا بتدسيسها وتدنيسها بالشرك والمعاصي ، وعدم تزكيتها بالتوحيد والفضائل والأعمال الصالحة ، فلم يكن لها حظ في الآخرة ، ويومئذ يضل ويغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء كقولهم في معبوداتهم : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) فلم يكن لهم من عوض عن أنفسهم . وقد تقدم تفسير خسران النفس في ( س6 : 12 ، 20 ) وتفسير : ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) في ( 6 : 24 ) ونحوها : ( وما نرى معكم شفعاءكم ) إلى قوله : ( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) ( 6 : 94 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية