الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المبحث الثاني فيما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد وفيه مسائل . المسألة الأولى هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه ؟ وفيه ثلاثة أحوال . إحداها : في انعقاد الإجماع بعد الإجماع على شيء سبق خلافه وفيه مسألتان : إحداهما : أن يكون من المجمعين كما لو أجمع أهل عصر على حكم ، [ ص: 502 ] ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع ، وأجمعوا عليه ، ففي جواز الرجوع خلاف مبني على اشتراط انقراض العصر في الإجماع . فمن اعتبره جوز ذلك ، ومن لم يعتبره - وهو الراجح - لم يجوزه ، وكان إجماعهم الأول حجة عليهم وعلى غيرهم . الثانية : أن يكون من غيرهم ، فمنعه الأكثرون أيضا ، وإلا لتصادم الإجماعان ، وجوزه أبو عبد الله البصري . قال الإمام الرازي : وهو الأولى ; لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول يشترط أن لا يطرأ عليه إجماع آخر ، ولكن لما اتفق أهل الإجماع على أن كل ما أجمعوا عليه ، فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز ، فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول ، وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الإجماع الثاني . والحاصل : أن نفس كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف بعده عند الجماهير ، وعند البصري لا يقتضي ذلك ، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر . قال الهندي : وعند هذا ظهر أن مأخذ أبي عبد الله البصري قوي . قيل اتفقوا على أنه لم يقع . وما ذكر من قول الشافعي : أجمعوا على رد شهادة العبد ، وما روي عن أنس أجمعوا على قبولها ، فالذي نقل عن [ ص: 503 ] أنس لم يصح عنه ، وكذا قولنا : أجمعوا على القول بالقياس ، وقول ابن حزم : " أجمعوا على بطلان القياس " مردود . وحكى أبو الحسين السهيلي في كتاب أدب الجدل " له في هذه المسألة خلافا غريبا فقال : إذا أجمعت الصحابة على قول ، ثم أجمع التابعون على قول آخر ، فعن الشافعي - رحمه الله - جوابان . أحدهما : - وهو الأصح - أنه لا يجوز وقوع مثله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على الضلالة . والثاني : لو صح وقوعه ، فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة ; لأنا لما وجدناهم مجمعين على قول واحد ، علمنا كونهم مجمعين فيه ، فلم يجز تركه بما يتحقق كونه حقا ، وقيل : إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب ، وليس بشيء .

                                                      الحالة الثانية : في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف بأن يختلف أهل العصر على قولين في مسألة لم يقع الإجماع منهم على أحدهما . والتفريع على جواز صدوره عن الاجتهاد كما قاله إلكيا ، فللخلاف حالتان . إحداهما : أن لا يستقر ، بأن يكون المجتهدون في مهلة النظر ، ولم يستقر لهم قول ، كخلاف الصحابة لأبي بكر - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة ، وإجماعهم بعد ذلك . قال الشيخ في اللمع " : صارت المسألة إجماعية بلا خلاف . وحكى الهندي تبعا للإمام أن الصيرفي خالف في ذلك ، ولم أره في كتابه ، بل ظاهر كلامه يشعر بالوفاق في هذه المسألة . والثانية : أنه يستقر ، ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة ، وفيه مسائل [ ص: 504 ]

                                                      إحداها : إذا اختلف أهل العصر على قولين ، فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الاتفاق على أحد القولين ، والمنع من المصير إلى القول الآخر ؟ فيه خلاف ، وبتقدير وقوعه ، هل يصير إجماعا متبعا أم لا ؟ اختلفوا فيه بناء على مسألة انقراض العصر في الإجماع ، فإن اشترطناه جاز وقوعه قطعا ، وكان حجة ، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي ; ولأن اختلافهم على قولين ليس بأكثر من إجماعهم على قول واحد ، فإذا جاز الرجوع في الواحد المتفق عليه ، ففي المختلف فيه أولى . والشرط كما قاله ابن كج : أن يرجع الجميع من قبل أن ينقرض منهم واحد ، وإن لم يشترط ، ففيه مذاهب . أحدها : المنع مطلقا كما لو اتفقوا على قول ، ثم رجعوا بأسرهم ، ولتناقض الإجماعين ، وبه قال القاضي أبو بكر ، وإليه ميل الغزالي وغيره ، ونقله ابن برهان في الوجيز " عن الشافعي ، وبه جزم الشيخ في اللمع " . والثاني : عكسه ، ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأصوليين ، واختاره الآمدي ، والرازي . والثالث : الجواز فيما دليل خلافه الإمارة والاجتهاد ، دون ما دليل خلافه القاطع عقليا كان أو نقليا . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : إن كان الخلاف فيما طريقه التأثيم والتضليل ، جاز الإجماع بعد ذلك ، وإن كان في مسائل الاجتهاد في الفروع جاز أيضا ، لكن لا يجوز أن يجزموا معه بتحريم الذهاب إلى الآخر ; لأنه يؤدي إلى كون أحد الإجماعين خطأ . ومنهم من أحاله قطعا . [ ص: 505 ] والرابع : يخرج من كلام إمام الحرمين في مسألة الانقراض : إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فهو إجماع ، وإن تمادى الخلاف في زمن طويل ، ثم اتفقوا فليس بإجماع ، والمختار : أنه يجوز وقوعه ، وأنه حجة .

                                                      ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحابنا على أنه حجة مقطوع بصحته ، ويخرج من كلام الماوردي والروياني طريقة قاطعة به ، فإنهما جزما بالجواز ، وقالا : يرتفع به الخلاف السابق ، ثم قالا : وفيه وجهان ، أحدهما : أنه آكد من إجماع لم يتقدمه خلاف ; لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه . والثاني : أنهما سواء ; لأن الحق مقترن بكل منهما . ومنهم من نقل هاهنا عن الصيرفي أنا إذا لم نشترط انقراض العصر لا يكون إجماعا ، لتقدم الإجماع منهم على تسويغ الخلاف ، وبه جزم القاضي عبد الوهاب فيما نقل عنه أيضا ، وقد استشكلها الغزالي من حيث إن الإجماع الأول قد تم على تسويغ الخلاف ، ثم الاتفاق الثاني قد منع الخلاف ، فقد تناقص الإجماعان . وفرق بينهما وبين ما إذا كان الاتفاق من أهل العصر الثاني . فإن المخالفين في هذه المسألة المتفقون عليها بخلاف تلك ، وقد رأى أن المخلص في ذلك الحكم بإحالة وقوع هذه المسألة للتناقض المذكور .

                                                      وقد أورد عليه أن ذلك ليس بمحال ، فقد وقع في قضية خلافة الصديق رضي الله عنه ، فإنهم اختلفوا ، فقال الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ثم أجمعوا عليها ، فكان إجماعا صحيحا ، ويجاب بأن ذلك لم يكن بعد [ ص: 506 ] استقرار الخلاف بل لم يتم النظر ، ثم لما تم وتبين أجمعوا ، وصورة المسألة إنما هي بعد استقرار الخلاف ، وعلى هذا فالظاهر بحثا ما قاله الغزالي . إذا عرف هذا ، فلو اختلفوا ثم ماتت إحدى الطائفتين ، أو ارتدت - والعياذ بالله - وبقيت الطائفة الأخرى على قولها ، فهل يعتبر قول الباقين إجماعا وحجة ، فقولان ، حكاهما الأستاذ أبو إسحاق ، واختار الرازي ، والهندي أنه يعتبر مجمعا عليه ، لا بالموت والكفر ، بل عندهما لكونه قول كل الأمة ، وذكر ابن الحاجب في الكلام على اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول ، وحكى عن الآخرين أنه لا يكون إجماعا ، وذكر الآمدي نحوه . قلت : وصححه القاضي في التقريب " قال : لأن الميت في حكم الباقي الموجود ، والباقون من مخالفيه هم بعض الأمة لا كلها ، وقال في المستصفى " : إنه الراجح ، وجزم الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب عيار الجدل " ، وكذا الخوارزمي في الكافي " ، قال : لأنه بالموت لا يخرج عن كونه من الأمة . ونقل أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل " الخلاف في هذه المسألة ثم قال : وقال بعضهم - وهو أقوى الطرق - : إن هذه المسألة مبنية على أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين ، ثم أجمع التابعون على أحدهما ، فقيل : يصير إجماعا ، وفيه قولان : فإن قلنا : يصير ، فكذلك هاهنا ، وإن قلنا بالمنع ثم فكذلك هاهنا ; لأن خلاف من مات لا ينقطع .

                                                      وفي المسألة مذهب ثالث حكاه أبو بكر الرازي ، إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة ; لأن الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان ، وقد [ ص: 507 ] شهدت ببطلان قول المنقرضة ، فوجب أن يكون قولها حقا ، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف . قال : وهذا منه بناء على أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف المتقدم إذا كان طريقه اجتهاد الرأي . الثانية : أن يموت بعضهم ويرجع من بقي إلى أحد القولين . قال ابن كج : فيه وجهان . أحدهما : أنه إجماع ، وبه قال أهل العراق ; لأنهم أهل العصر . والثاني : المنع ; لأن الصديق رضي الله عنه - جلد في حد الخمر أربعين ، ثم أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم على ثمانين في زمن عمر رضي الله عنه . فلم يجعلوا المسألة إجماعا ; لأن الخلاف كان قد تقدم ، وقد مات من قال بذلك ، وإن كان فيهم من رجع إلى قول عمر رضي الله عنه ، الثالثة : أن ينقرضوا على خلافهم ، فقد حصل الإجماع منهم على أن الحق لم يخرج عن القولين ، وعلى تسويغ الاجتهاد في طلب الحق بين القولين ، بل جواز تقليد كل واحد من الفريقين ، ثم قال بعض أصحابنا : هو إجماع مبين ، وقال بعضهم : بشرط أن لا يظهر على أحد القولين دليل مقطوع به فهل لمن بعدهم الإجماع على أحد ذينك القولين ؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله ، كما قاله أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل " .

                                                      وأصحهما امتناعه ، وكأنه حاضر ، وليس موته مسقطا لقوله ، فيبقى الاجتهاد ، ولا يخرج الخلاف ، وهو أصح الوجهين عند أصحابنا ، ونصره الصيرفي في الدلائل ، ونقله القاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ عنه عن ابن أبي هريرة ، وأبي علي الطبري ، وأبي حامد المروزي . ونقله الأستاذ أبو منصور عن الصيرفي وأكثر أصحاب الشافعي ، وذكر الشيخ أبو إسحاق أنه قول عامة [ ص: 508 ] أصحابنا ، وقول الشيخ أبي الحسن الأشعري . ونقله القاضي في التقريب " عن جمهور المتكلمين والفقهاء ، قال : وبه نقول ، وقال سليم الرازي : إنه قول أكثر أصحابنا ، وأكثر الأشعرية ، وكذا قال ابن السمعاني . وقال إمام الحرمين : إليه ميل الشافعي ، قال : ومن عباراته الرشيقة : المذاهب لا تموت بموت أربابها ، أي فكان الخلاف باقيا ، وإن ذهب أهله .

                                                      وقال إلكيا ، وابن برهان : ذهب الشافعي إلى أن حكم الخلاف لا يرتفع . قلت : وهو يباين ما سبق عن الشافعي من امتناعه في العصر الواحد ، فهاهنا ، وقال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص " : إنه أصح قولي الشافعي ، وهو الذي نصره ابن القطان ، ونقل أنهم قالوا : إنه مذهب الشافعي رضي الله عنه ، أنه قال : حد الخمر أربعون ; لأنه مذهب الصديق رضي الله عنه ، وقد أجمعوا بعد هذا على أن حده ثمانون ; لأنهم قالوا : نرى أنه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وقد أجمعوا على هذا ، ولم نعده إجماعا ; لسبق خلاف الصديق رضي الله عنه . قلت : ولا يشكل على ذلك أنه نقض في الجديد قضاء من حكم ببيع أمهات الأولاد لأجل اتفاق التابعين بعد خلاف الصحابة ، فعد إجماعا ، فإنه إنما اعتبر في ذلك إجماع الصحابة ; لأنهم كانوا أجمعوا على المنع ، وكان علي رضي الله عنه فيهم ، وانقراض العصر ليس بشرط ، واختاره الإمام والغزالي . [ ص: 509 ] والثاني : أنه جائز ، وبه قال أكثر الحنفية ، منهم : محمد بن الحسن ، وأبو يوسف ، والكرخي . قال محمد بن الحسن في قاض حكم ببيع أم الولد بعد موت مولاها : إني أبطل قضاءه ; لأن الصحابة رضي الله عنهم كانت اختلفت فيها ، ثم أجمع بعد ذلك قضاة المسلمين وفقهاؤهم على أنها لا تباع . قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول أصحاب الرأي ، وأكثر المعتزلة ، والحارث بن أسد المحاسبي ، وأبي علي بن خيران ، وكذا حكاه عنهما القفال الشاشي في كتابه ، وقال : إنه الأصوب ، واختاره الإصطخري ، والقاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ ، والرازي ، وأتباعه . ونقله إلكيا عن الجبائي وابنه ، وأبي عبد الله البصري .

                                                      وفي المسألة قول ثالث حكاه أبو بكر الرازي ، إن كان خلافا يؤثم فيه بعضهم بعضا كان إجماعا ، وإلا فلا . التفريع : إن قلنا بالامتناع ، فقال الصيرفي : يكون منزلة المجمعين من التابعين منزلة من وافق الصدر الأول ، وللناس أن ينظروا أي الفريقين أصوب ولا يسقط النظر أبدا مع وجود المخالف . وإن قلنا بالجواز ، فقال أكثرهم : هو حجة ، يرتفع به الخلاف السابق ، وتصير المسألة إجماعية ، وليس لمن بعدهم أن يخالفوهم ، وقيل : لا يكون حجة . ونقل ابن القطان عن قوم أنه ليس بإجماع إلا أن يكون لهؤلاء مزية على أولئك . ثم قرره بأن هذا القائل هل يرى أن هذا القول أصح لانفراده [ ص: 510 ] في العصر ؟ وإذا كان منفردا في العصر وجب أن يكون الاعتبار له .

                                                      قال أبو الحسين بن القطان : وليس هذا بشيء إلا على طريقة له في القديم ، وهي أنه إذا اختلفت الصحابة على قولين أخذ بقول الأكثر ، فأما المشهور من مذهبه ، فإنه لا فرق بين العدد الكثير والقليل ; ونحوه ما حكاه الصيرفي عن قوم أن إجماع التابعين دل على الصواب من أقاويل المختلفين ، والحق أنه لا يبلغ مبلغ الإجماع القطعي ، ولكنه إجماع مظنون ، فإن مراتب الإجماع متفاوتة ، وإليه يشير كلام إمام الحرمين ، وقد صرح الحنفية بأنه مراد في مراتب الإجماع . حكاه أبو زيد في التقويم " . وصورة المسألة عند الغزالي ما إذا لم يصرح المانعون بتحريم القول الآخر ، فإن صرحوا بتحريمه ، فقد تردد ، أعني الغزالي . هل يمنع ذلك أو لا ؟ ولا يجب اتباعهم فيه ، هذا في الجواز .

                                                      وأما الوقوع ، فظاهر ما سبق عن الشافعي في حد الخمر وقوعه . وقال ابن الحاجب : الحق في مثل هذا الإجماع أنه بعيد وقوعه ; لأنه غالبا لا يكون إلا عن جلي ، وتبعه غفلة المخاطب عنه ، لكن وقع قليلا ، والوقوع قليلا لا ينافي البعد ، كما لا خلاف في بيع أم الولد فإنه وقع بين الصحابة ، ثم زال . ونقل عبد الوهاب في الملخص " عن الصيرفي أنه أحال ذلك ، وقال : لا يجوز أن يتفق للتابعين الإجماع على أحد قولي الصحابة ، فلا يؤدي إلى تعارض الإجماعين ، وكون أحدهما خطأ ; لأن اختلافهم على قولين إجماع [ ص: 511 ] على تسويغ الذهاب ورأي كل منهما . قلت : وكذا رأيته في كتابه ، فقال بعد أن قرر أنه ليس بإجماع : على أني لا أعلم خلافا وقع في الصحابة منتشرا فيهم ، ثم وقع من التابعين الإجماع على أحد القولين ، إلا أن يكون ناقله من جهة الآحاد ، فهذا لا يترك له ما قامت عليه الدلالة من قول من سلف . ا هـ .

                                                      وقال إلكيا : ذهب قوم إلى أن هذا النوع لا يتصور ، وإليه ميل إمام الحرمين ، والذين أحالوا تصوره اختلفوا فيه على ثلاثة أنحاء ، فقيل : لأن إجماع التابعين لا يحتج به . وقد تقدم أن الصحيح خلافه ، وإن لم يكن إجماع التابعين حجة لم يكن لهذا الخلاف معنى . وقيل : لأن الإجماع لا يصدر إلا عن اجتهاد ، والاختلاف على قولين يقتضي صدور الأقوال عن اجتهاد ، وقد تقدم ما فيه . وقال الإمام : واستحالة تصوره من حيث إنه إذا تمادى الخلاف في زمان متطاول ، بحيث يقتضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين مع طول المباحثة ، لظهر ذلك للباحثين ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا انتهى ، ورسخ الخلاف ، وتناهى الباحثون ، ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو أثر يجب الحكم به ، فلا يقع في العرف .

                                                      [ دروس مذهب طال الذب عنه ] . فإن فرض فارض ذلك ، فالإجماع محمول على بلوغ خبر يجب بمثله سوى ما كانوا خائضين فيه من مجال الظنون . قال إلكيا : وما ذكره الإمام مخيل ، لكن جوابه سهل ، فإنا نرى أهل كل عصر يظهرون مذهبا غير الذي عهده من تقدمهم في العصور الخالية مع أن النظم يحتمله وغيره ، وإذا ثبت أنه متصور انبنى عليه أن الإجماع [ ص: 512 ] هل يزيل الحكم السابق أم لا ؟ قال إلكيا : وهذه المسألة يلاحظ في مجاريها أصل تصويب المجتهدين . قلت : وطريقة رابعة لهم في الإحالة وهي عليهم ، فقوله هنا : إذا وجد إجماع بعد اختلاف ، فلا بد أن يكون هناك خلاف ، وإن لم يبلغنا ، وإلا لأدى إلى تعارض الإجماعين ، ذكره عبد الوهاب . الحالة الثالثة : في حدوث الخلاف بعد تقدم الإجماع . قال الروياني في البحر " : فإن كان في عصر واحد ، مثل أن يتقدم إجماع الصحابة ، ثم يحدث من أحدهم خلاف ، فهذا الخلاف الحادث يمنع انعقاد الإجماع ، يعني إن شرطنا انعقاد العصر ، وإلا فلا . وإن كان في عصرين ، كإجماع الصحابة ، وخلاف التابعين لهم ، فهو ضربان . أحدهما : أن يخالفوهم مع اتفاق الأصول في المجمع عليها ، فهذا الخلاف الحادث مطروح ، والإجماع الأول منعقد . ثانيهما : أن يحدث في المجمع عليه صفة زائدة أو ناقصة ، فيحدث الخلاف فيها لحدوث تلك الصفة ، فيكون الإجماع في الصفات المختلفة منعقدا ، وحدوث الاختلاف في الصفات المختلفة سائغ عند الشافعي وجمهور العلماء . وقال داود وبعض أهل الظاهر : يستصحب حكم الإجماع ، واختلاف الصفة الحادثة لا ينتج الحكم فيها إلا بدليل قاطع ، وجعلوا استصحاب الحال حجة في الأحكام .

                                                      مثاله : أن ينعقد الإجماع على إبطال التيمم برؤية الماء قبل الصلاة ، فإذا رأى الماء في الصلاة أبطلوا تيممه استصحابا لبطلانه قبل الصلاة من غير أن يجمعوا بينهما بقياس ، وهذا فاسد ، ولكل حادث حكم يتجدد ، وإنما يكون الإجماع حجة في الحال التي ورد فيها لا في غيرها ، [ ص: 513 ] إلا أن يكون القياس موجبا لاستصحاب حكمه ، فإن الإجماع أصل تجويز القياس عليه ، فيكون القياس هو الذي أوجب استصحاب حكم الإجماع لا الإجماع . ا هـ . وذكر القفال في كتابه قريبا من هذا التفصيل ، وقال في القواطع " : إذا حدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد ، فهو على ضربين . أحدهما : أن يكون المخالف لم يوافق قبل على خلافه ، فيصح خلافه ، ولا ينعقد مع خلافه الإجماع ، كما خالف ابن عباس في العول مع إجماع غيره . والثاني : أن يكون وافقهم ثم خالفهم ، كخلاف علي في بيع أمهات الأولاد بعد اتفاقه مع عمر وسائر الصحابة في تحريم بيعهن . فمن جعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع أبطل الإجماع بخلافه ; لحدوثه قبل استقراره ، ومن لم يجعله شرطا أبطل خلافه بعد إجماعهم . ثم قال : الاختلاف بعد الإجماع إن كان في عصر انبنى على أن انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا ؟ فإن قلنا : شرط ، جاز الاختلاف ; لأن الإجماع لم ينعقد ، وإن قلنا : ليس بشرط ، فلا يجوز فأما في العصرين ، وذلك بأن يجمع الصحابة على شيء ، ثم يختلف التابعون فلا يجوز ذلك ، ويكون خلافه معاندة ومكابرة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية