الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) .

[ ص: 8 ] ( قضى ) يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله : ( فلما قضى موسى الأجل ) ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أي : وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت . وعن ابن عباس معناه أعلمناهم ، وعنه أيضا قضينا عليهم ، وعنه أيضا كتبنا . واللام في ( لتفسدن ) جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفا ، ويكون متعلق القضاء محذوفا تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق ( قضينا ) وأبقي منصوب القسم المحذوف . ويجوز أن يكون ( قضينا ) أجري مجرى القسم ، و ( لتفسدن ) جوابه ، كقولهم قضاء الله لأقومن . وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع ، والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة . وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد لتفسدن - بضم التاء وفتح السين - مبنيا للمفعول أي : يفسدكم غيركم . فقيل : من الإضلال ، وقيل : من الغلبة . وقرأ عيسى لتفسدن بفتح التاء وضم السين [ ص: 9 ] أي : فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي مرتين ، أولاهما : قتل زكرياء - عليه السلام - قاله السدي عن أشياخه ، وقاله ابن مسعود وابن عباس ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك ، وقتل بعضهم بعضا ولا يسمعون من زكريا . فقال الله له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب ، فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها . وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم ، قيل : قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة ، وقيل : أشعياء قاله ابن إسحاق ، وإن كان زكرياء مات موتا ولم يقتل ، وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو أشعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة - قبل يحيى بن زكرياء - وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا ، ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل : وكان بين آخر الأولى والثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤيدا ثابتا ، وقيل : سبعون سنة . وقال الكلبي : لتعصن في الأرض المقدسة ولتعلن أي : تطغون وتعظمون .

وقرأ زيد بن علي " عليا كبيرا " في الموضعين بكسر اللام والياء المشددة . وقراءة الجمهور ( علوا ) والصحيح في فعول المصدر أكثر ، كقوله : ( وعتوا عتوا كبيرا ) بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس ، وشذ التصحيح نحو نهو ونهو ، خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا ( فإذا جاء وعد أولاهما ) أي : موعد أولاهما ; لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب . وقال الزمخشري : معناه : وعد عقاب أولاهما . وقيل : الوعد بمعنى الوعيد ، وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، والضمير في أولاهما عائد على المرتين .

وقرأ الجمهور ( عبادا ) وقرأ الحسن وزيد بن علي " عبيدا " . قال ابن عباس : غزاهم ، وقتادة : جالوت من أهل الجزيرة . وقال ابن جبير وابن إسحاق : غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل . وقيل : بختنصر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس ، وهو خامل يسير في مطبخ الملك ، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس ; لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ، ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك . وقيل : هم العمالقة وكانوا كفارا ، وقيل : كان المبعوثون قوما مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل ، والبعث هنا الإرسال والتسليط . وقال الزمخشري : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوه ، ولم نمنعهم على أن الله - عز وعلا - أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) وكقول الداعي : وخالف بين كلمتهم ، وأسند الجوس ، وهو التردد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم . انتهى . وفي قوله : خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال .

وقال ابن عطية : ( بعثنا ) يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي : غزاهم . انتهى . ( أولي بأس شديد ) أي : قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم ، وكثرة عددهم وعددهم . وقرأ الجمهور [ ص: 10 ] ( فجاسوا ) بالجيم . وقرأ أبو السمال وطلحة " فحاسوا " بالحاء المهملة . وقرئ ( فتجوسوا ) على وزن تكسروا بالجيم . وقرأ الحسن ( خلال الديار ) واحدا ، ويجمع على خلل كجبل وجبال ، ويجوز أن يكون خلال مفردا كالخلل وهو وسط الديار وما بينها ، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرب بيت المقدس ، ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر . وعن ابن عباس ومجاهد : أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ، ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل ، وانصرفت عنهم الجيوش . والضمير في ( وكان ) عائد على وعد أولاهما . قال الزمخشري : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل . انتهى . وقيل : يعود على الجيوش ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل ( رددنا ) موضع نرد ، إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد ، لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، والكرة : الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم ، حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر ، واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وذكر في سبب ذلك أن ملكا غزا أهل بابل ، وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل في الذل ، فلما غزاهم ذلك الملك ، وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل ، فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا . وقيل : الكرة : تقوية طالوت حتى حارب جالوت ، ونصر داود على قتل جالوت . وقال قتادة : كانوا أكثر شرا في زمان داود عليه السلام . وانتصب ( نفيرا ) على التمييز . فقيل : النفير والنافر واحد ، وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم . وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد ، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء . وقيل : النفير مصدر أي : أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر :


فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا



ويروى بالحميريين أكرم نفيرا ، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري ، وأكثر نفيرا مما كنتم وقدره غيره ، وأكثر نفيرا من الأعداء .

( إن أحسنتم ) أي : أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم ( وإن أسأتم ) بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم ، لا يتعدى الإحسان والإساءة إلى غيركم ، وجواب وإن أسأتم قوله : ( فلها ) على حذف مبتدأ محذوف ، ولها خبره تقديره فالإساءة لها . قال الكرماني : جاء فلها باللام ازدواجا . انتهى . يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها . وقال الطبري : اللام بمعنى إلى أي : فإليها ترجع الإساءة . وقيل : اللام بمعنى على أي : فعليها كما في قوله :


فخر صريعا لليدين وللفم



( فإذا جاء وعد الآخرة ) أي : المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم ، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى ، تقديره بعثناهم عليكم ، وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زكريا - عليهما السلام . وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره : أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها ، فنهاه يحيى بن زكريا ، وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها ، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزوج ابنتها فسألته ذلك ، فدافعها فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل عليه منهم سبعين ألفا . وقال السهيلي : لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصر ; لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل . وقيل : المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة ، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا أشعياء فكان بختنصر [ ص: 11 ] إذ ذاك حيا فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر ، وأخرجهم منها . وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخرا ملك اسمه خردوس ، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم . وقيل : قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لاحب . وقال الربيع بن أنس : كان يحيى قد أعطي حسنا وجمالا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت .

وقرأ الجمهور ( ليسوءوا ) بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر " ليسوء " بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، والفاعل المضمر عائد على الله تعالى ، أو على الوعد ، أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة . وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والكسائي " لنسوء " بالنون التي للعظمة ، وفيها ضمير يعود على الله . وقرأ أبي " لنسوءن " بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخرا . وعن علي أيضا " لنسوءن وليسوءن " بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة ، وهي لام القسم ، ودخلت لام الأمر في قراءة أبي على المتكلم كقوله : ( ولنحمل خطاياكم ) وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء . وفي مصحف أبي " ليسيء " بياء مضمومة بغير واو . وفي مصحف أنس " ليسوء " وجهكم على الإفراد ، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة ; لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق ، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه ، فإنهم ساءوهم بالقتل والنهب والسبي ، فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه ، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب .

واللام في ( وليدخلوا ) لام كي معطوفا على ما قبلها من لام كي ، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمرا ، وجاز أن تكون لام كي أي : وبعثناهم ليدخلوا . والمسجد مسجد بيت المقدس ، ومعنى كما دخلوه أول مرة أي : بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب ، وتقدم الكلام في أول مرة في سورة التوبة . ( وليتبروا ) يهلكوا . وقال قطرب : يهدموا . قال الشاعر :


فما الناس إلا عاملان فعامل     يتبر ما يبني وآخر رافع



والظاهر أن ( ما ) مفعولة بـ يتبروا أي : يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار ، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي : مدة استيلائهم عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة ، وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا - عليهما السلام - فلم يفعلوا . ( وإن عدتم ) إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة ، وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم . وعن الحسن عادوا فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة . انتهى . ومعنى ( عدنا ) أي : في الدنيا إلى العقوبة . وقال تعالى : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) ثم ذكر ما أعد لهم في الآخرة ، وهو جعل جهنم لهم ( حصيرا ) والحصير السجن . قال لبيد :


ومقامه غلب الرجال كأنهم     جن لدى باب الحصير قيام



وقال الحسن : يعني فراشا ، وعنه أيضا هو مأخوذ من الحصر ، والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم ، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث ، كما تقول : رحيمة وعليمة ، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي : ذات انفطار .

التالي السابق


الخدمات العلمية