الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 462 ] ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة

                          ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ، ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك . وهذا أثر لا يثبت به شيء . وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق ، وأنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطئوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم ، قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك . ففعلوه فألفوه . وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى ، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة . فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل ، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار - أي بعد قتله - كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه . رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد ، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هنالك ، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولابد أن يكون من الأعاجم . وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح - تعنى عمل قوم لوط - رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش ألا يجالسوه . أي لمجرد التهمة .

                          هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ، ولا سيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء ، كثكنات الجند ، والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ ، ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربة الدينية ، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم . قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :

                          " وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وقد فشا ذلك في التجارة والمترفين ، فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك ، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة ، وأعظم الخزي [ ص: 463 ] والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة ، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة ، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات ، والخيانة في المعاملات والأمانات ؛ ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه ، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه ، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه ، وموجده ورازقه ، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروءة والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة ، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة ، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله ، فناهيك برذيلة تعف عنها الحمير ، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره ، وأشأم من خبره ، وأنتن من الجيف ، وأحق بالشرور والسرف ، وأخو الخزي والمهانة ، وخائن عهد الله وماله عنده من الأمانة ، فبعدا له وسحقا ، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ .

                          وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم - دمرهم الله تعالى - يهونون أمرها ويتيمون بها ، ويفتخرون بالإكثار منها ، ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ، ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول ، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ .

                          وأقول : إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولا سيما إذا كان جميل الصورة ، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة . روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل - وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى - وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد - وعن ابن سهل قال : سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون ، وصنف يصافحون ، وصنف يعملون ذلك العمل - وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا .

                          وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال : دخل سفيان الثوري الحمام ، فدخل عليه غلام صبيح فقال : أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا . يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله ، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل ذلك الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين ، حتى إنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات . ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة ، فيجعل الخير وسيلة إلى الشر ، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت [ ص: 464 ] حاله ، وساء مآله ، وكم تهتك متهتك ففضح سره ، واشتهر أمره ، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب ، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :


                          إن كان ذنبي عنده الإسلام فقد سعت في نقضه الآثام     واختلت الصلاة والصيام
                          وجاز في الدين له الحرام



                          وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :

                          ( 1 ) جناية على الفطرة البشرية .

                          ( 2 ) مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة .

                          ( 3 ) مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة ، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة .

                          ( 4 ) مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن ، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن ، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه ، فلما رأته دهش بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد في عيبا ؟ قال : إنى لم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية ، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه .

                          ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية ، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيها النساء بالنساء كما يستغني الرجال بالغلمان كما نقل عن نساء قوم لوط ، فقد روي عن حذيفة رضي الله عنه إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال وعن أبي جعفر قال قلت لمحمد بن علي : عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم ؟ قال الله أعدل من ذلك : استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال . أبو جعفر هو الإمام محمد الباقر ومحمد بن علي هو ابن الحنفية .

                          ( 5 ) قلة النسل بفشوها ، فإن من لوازمها الرغبة عن الزواج في إتيان الأزواج [ ص: 465 ] في غير مأتى الحرث . وقد وردت أحاديث كثيرة في حظر إتيان النساء في غير سبيل النسل ولعن فاعل ذلك ، وهو من عمل قوم لوط ، وسماه بعض العلماء اللوطية الصغرى .

                          ( 6 ) أنها ذريعة للاستمناء ولإتيان البهائم وهما معصيتان قبيحتان شديدتا الضرر في الأبدان والآداب ، ومحرمتان كاللواطة والزنا في جميع الأديان ، وذلك مما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن رسوله لوط عليه السلام : ( إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ) فقصد الشهوة لذاتها يفضي إلى وضعها في غير موضعها ، وإنما موضعها الزوجة الشرعية المتخذة للنسل ، وفي الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين الآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه وجعله وسيلة للحياة الوالدية التي تنمى بها الأمة ويحفظ النوع البشري من الزوال . والخروج عن ذلك إلى جعل الشهوة مقصدا يكثر من وسائلها ما كان أقرب منالا وأقل كلفة ، فإذا اعتيد استغنى به عن غيره ، ومفاسد ذلك فوق ما وصفنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية